ردود لا مفر منها

وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنۡ هَمَزَٰتِ ٱلشَّيَٰطِينِ ٩٧ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحۡضُرُونِ ٩٨

   اللهم إنك سلطت علينا شيطانا عدوا لنا بصيرا بعيوبنا مطلعا على عوراتنا يرانا هو قبيله من حيث لا نراهم، اللهم أيِّسه منا كما أيَّسته من رحمتك، و قنِّطه منا كما قنطته من عفوك، و باعد بيننا و بينه كما باعدت بينه و بين جنتك، بعلمك و لطفك ورحمتك.. يسرنا فيما فيه سيرتنا وأعنا فيما فيه أوجدتنا وكن لنا فيما كونتنا.. حتى نكون لك كما تريد، إنك فعال لما تريد.. و أقمنا بك فيك و أيدنا بك لك، بجاه باب سرك المصون و سر نورك المخزون سيدنا محمد صلى الله عليه و على آله و صحبه و سلم..

 

   مما ينبه إليه علماء السير على الطريق و يركز عليه الراسخون في سلوك التحقيق، هو التنبه إلى القواطع و المعوقات في نهج السير السليم و السلوك القويم على الصراط المستقيم، من كيد النفس و الهوى و الشيطان الرجيم..

   فقسموا ذلك إلى سلوكين أساسيين لا بد من مراعاة أنوار الحقيقة في كل منهما امتثالا لأمر الله في قوله تعالى: إِنَّ ٱلشَّيۡطَٰنَ لَكُمۡ عَدُوّٞ فَٱتَّخِذُوهُ عَدُوًّاۚ إِنَّمَا يَدۡعُواْ حِزۡبَهُۥ لِيَكُونُواْ مِنۡ أَصۡحَٰبِ ٱلسَّعِيرِ ٦ فاطر..

   1) امتثال أمر الله في الإيمان به و التصديق بنبيه و العمل بكتابه على النهج المطلوب كما وضحه و بينه رسول الله صلى عليه و سلم على حسب الأنوار الربانية التي أشرقت بها ذاته الشريفة ونطقت بها السنة في الحديث و التشريع، و هذه موالاة الرحمن ومحاربة الشيطان في المبدأ و الأساس و صيانة العقيدة من التلف و الإفلاس..

   2) إذا سبقت من الكريم العناية و كتب العبد من أهل الإسلام، فالشيطان لا يسأم ويأتيه عن يمينه وعن شماله ومن ورائه ومن أمامه ليعرقل له السير و يعطل عليه الخير ثُمَّ لَأٓتِيَنَّهُم مِّنۢ بَيۡنِ أَيۡدِيهِمۡ وَمِنۡ خَلۡفِهِمۡ
وَعَنۡ أَيۡمَٰنِهِمۡ وَعَن شَمَآئِلِهِمۡۖ وَلَا تَجِدُ أَكۡثَرَهُمۡ شَٰكِرِينَ ١٧
(الأعراف).. و هذا الذي لا ينتبه إليه كثير من السائرين في طريق الله بغير أنوار، و السالكين المحجة بغير أسرار..

   بسطت في هذه المقدمة لأنبه إلى سلوك العرقلة الذي ينهجه كثير من الجاهلين بعلم السلوك، وبهذا لا يشكلون عقبات على أنفسهم فحسب و لكن لكل سائر في الطريق القويم و الصراط المستقيم، و يعتبر هذا من مزالق الأقدام ، و يدخل في كيد الشيطان، و هم عن هذا غافلون و به عابثون، فعلى العاقل أن يتنبه.. فليس من زين له سوء عمله كمن استنار سيره في مجمله..

   هذا و إن واحدا من الإخوة المحبين في كتاب الله، تناول بالخير و البركة في موقع الأرقام في القرآن، بعض أنواع الإعجاز القرآني من الوجهة الرقمية بطريقة بحث أنيقة و راقية تجعل المحب لكتاب الله يزداد محبة و المتشبث بسنة رسول الله يزداد تشبثا، و هذه الأمور في الواقع لا يتنبه إليها إلا من فتح الله عليه ليزداد هو لنفسه اطمئنانا و يكون لإخوانه دلالة و برهانا، قال تعالى: إِنَّمَا يَخۡشَى ٱللَّهَ مِنۡ عِبَادِهِ ٱلۡعُلَمَٰٓؤُاْۗ (فاطر28)..

   فكيف يخشى الله من لا يعرف عن الله، و كيف يخشى الله من لم يتدبر كتاب الله و لا أنوار سيدنا رسول الله، قال تعالى: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ ٱلۡقُرۡءَانَ أَمۡ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقۡفَالُهَآ ٢٤ (محمد)..

 

   ذكر هذا الرجل في المنتدى بعضا من الأرقام العجيبة التي لا يسع العبد إلا أن يقول أمامها سبحانك ربي، و ذكر كلاما للولي الصالح سيدي عبد العزيز الدباغ أسرارا عن كتاب الله تثبت إعجازه في جميع النواحي و المناحي، فكتاب الله في سره معجز وفي ظاهره معجز و في أحكامه معجز و في بيانه معجز ، و كذلك حتى في كتابته و النطق به، و حتى الوقف فيه و الترقيق والتفخيم، و كل ما عرفه الإنسان و ما لم يعرفه حتى يأتي أو لا يأتي وقت معرفته..

 

   و هذا الصواب، كتاب الله معجز في الطب كما هو معجز في الكيمياء و كذلك في الفلك و علم الذرة و في كل ما عرف من العلوم و في كل ما سيعرف منها إلى يوم الوقت المعلوم، علم ذلك من علمه و جهله من جهله، و هذا بالضبط ما كان يقصد الرجل الذي أفرد بالموضوع، و جعله بمثابة نقطة ابتداء و اجتهاد في هذه الأنوار الربانية المشرقة في الذات المحمدية كما وردت عن العلماء بالله و الراسخين على قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم..

 

نقل عن سيدي عبد العزيز الدباغ أنه قوله: "كتاب الله موقوف عن رسول الله و لا أحد من الصحابة و لا غيرهم من له و لا شعرة في ذلك" و هذه حقيقة..

    فكيف تهتدي العقول إلى حذف و إثبات بعض الألفات من الكلمة الواحدة حسب المواقع الذي جاءت فيه كإثبات ألف (سعوا) في سورة الحج و حذفها (سعو) في سورة سبأ، و زيادتها في كفروا و خرجوا و دخلوا و إسقاطها في باءو و إن فاءو، و بسط كلمة التاء (كلمت) و ربطها أحيانا (كلمة) مرة كتابتها بالواو (صلوة) إلى غير ذلك مما يكاد ينحصر، و أن هذه أسرار ربانية لا يجب تخطيها بإجماع العلماء من مختلف المشارب و المذاهب، ذلك إيمانا و يقينا أن تلك أسرار ربانية لا تهتدي إليها العقول العادية و رسول الله هو الذي أمر بكتابتها على النحو المطلوب و ما علينا إلا أن نتبع و لا نبتدع، و من أطلعه على مخازن علمه فهو يعلم أسرار إثباتها و حذفها و وجودها و إسقاطها و كذلك الحروف التي أتت في فواتح الصور ك (الم،  المر ، المص ، ق ، ن ، يس ...) فهي كذلك من الوحي و ما علينا إلا أن تحتفظ عليها كما وجدناها و نقرأها كما سمعناها و نؤمن بها كما تلقيناها، فسرها موروث رباني موصول بالسند المتصل إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم..

   فما كان من المحروم من الأسرار إلا أن يعترض هذه الأنوار، و أوجد لنفسه و لمن هو على شاكلته بابا للرد أو الردع كما تهيأ لهم بإيجاد فتاوى و تأويلات لتعزيز ركنهم..

   قال فيما قال سامحه الله إن كان حقا أخطأ في اجتهاده، و إلا فهناك أعداء الله تسربلوا برداء الإيمان ليضلوا عن حقيقة الإيمان:

   قال الأخ سامحه الله في الرد على قول سيدي عبد العزيز الدباغ كما سبق ذكره، و كذلك على قول الزرقاني في مناهل العرفان الذي قال: ...

 "فكل ذلك لأسرار إلهية ، وأغراض نبوية ، وإنما خفيت على الناس لأنها أسرار باطنية لا تدرك إلا بالفتح الرباني ، بمنزلة الألفاظ والحروف المقطعة في أوائل السور ، فإن لها أسرارا عظيمة ومعاني كثيرة ، وأكثر الناس لا يهتدون إلى أسرارها ولا يدركون شيئا من المعاني الإلهية التي أشير إليها ، فكذلك أمر الرسم الذي في القرآن حرفا بحرف..."

 

   أجاب أخونا المتفلسف: هذا كلام طويل عريض يشتمل على ادعاءات وافتراضات لا نوافقه عليها من عدة وجوه..

   و سرد أربعة أوجه للمعارضة نذكر منها قوله: ليس في كتابة أي نص سر من الأسرار كما يدعى ، وأنى توصل لذلك؟وكيف يطلق الكلام جزافا ؟ وهل هنالك من له أدنى مسكة من عقل ، أو أثارة من علم فيدعى أن رسم المصحف معجز كنظم القرآن... إلى أن يقول:

   ... وما إعجاز الخط وما هي أسرار الإملاء ؟ حتى لا تهتدي العقول إلى سر زيادة الألف في جملة من الكلمات ، وحذفها من كلمات أخرى ، نعم السر واضح ، وهو بكل بساطة وكل تواضع وكل موضوعية : خطأ الكاتبين ، ولا علاقة لخطئهم بالنص..

   في الواقع لا يسعنا إلا أن نقول لا حول و لا قوة إلا بالله العلي العظيم ، و نقول لهذا الأخ إن كان فعلا مسلما مؤمنا، فأحيانا تطمس الأبصار لإقبال العبد على ما تعلم و نسيان من عَلّم، و هذه رقائق لا يعرفها إلا أهلها، و إلا فما جعل اللعين يقول: أنا خير منه..

   واستدل المعارض بأقوال كثير من العلماء الأجلاء ولم يراقب مقصد الاجتهاد عندهم أنه كتابة الحرف القرآني يعني شكله (شكل الحرف)، أما مجمل الكلمة فلم يعترض أحد من علماء الخلف أو السلف فيها و كل اكتفى بقبولها و التعامل معها كما وجدها، ولم يجرؤ أحد منهم على مثل ما قال ما هذا الرجل، أن ذلك جهل من رسول الله من حيث جهله بصناعة الكتابة وتقصير من الصحابة من حيث قصر باعهم في صنعة الخط..

   و أسرد عليكم بتلخيص كيف دخل هذا و أمثاله بتحايل شديد و دهاء مكثف إلى ما يريدون الوصول إليه من خلال أقوال العلماء الأجلاء الذين استدل بهم هذا المعارض بقصد أو بغير قصد و لكم الحكم فانظروا..

   استدل بقول ابن خلدون في المقدمة قال في طبعة بولاق:

وأين نسبة ذلك من الصحابة فيما كتبوه ، فاتبع ذلك وأثبت رسما ، ونبه علماء الرسم على مواضعه . ولا تلتفتن في ذلك إلى ما يزعمه بعض المغفلين من أنهم كانوا محكمين لصناعة الخط ، وأن ما يتخيل من مخالفته خطوطهم لأصول الرسم كما يتخيل ، بل لكلها وجه ، وما حملهم على ذلك إلا اعتقادهم أن في ذلك تنزيها للصحابة رضوان الله عليهم ، عن توهم النقص في قلة إجادة الخط ، وحسبوا أن الخط كمال ، فنزهوهم عن نقصه ، ونسبوا إليهم الكمال بإجادته ، وطلبوا تعليل ما خالف الإجادة عن رسمه وليس ذلك بصحيح .. واعلم أن الخط ليس بكمال في حقهم ، إذ الخط من جملة الصنائع المدنية المعاشية ، والكمال في الصنائع إضافي وليس بكمال مطلق ، إذ لا يعود نقصه على الذات في الدين ، ولا في الخلال . وإنما يعود على أسباب المعاش ، وبحسب العمران والتعاون عليه ، لأجل دلالته على ما في النفوس .

 ولقد كان صلى الله عليه وآله وسلم أميا ، وكان ذلك كمالا في حقه ، وبالنسبة إلى مقامه ، لشرفه وتنزهه عن الصنائع العملية التي هي أسباب المعاش والعمران كلها . وليست الأمية كمالا في حقنا نحن ، إذ هو منقطع إلى ربه ، ونحن متعاونون على الحياة الدنيا...

   الجواب من وجهتين..

   أولا أن ابن خلدون يتكلم على خط المصحف ونسخه يعني إعادة كتابته، و يتكلم على تحسين الخط و جماليته، فلو تكرمت ارجع إلى كل الفقرة و أعد فيها النظر كلمة كلمة، فإنك لن تجده تطاول على كلمات القرآن بزيادة أو نقصان أو تكميل كما سولت لك نفسك، و لكنه يتكلم على الذين كانوا في زمنه يتشبثون بالحرف من حيث الخط العثماني القديم، في كتابة الدال مثل الكاف أو تقويس الألف أو شق الهاء بالطريقة القديمة....

   و قد تجاوز علماء المسلمين هذا في وقته و أوانه و المصحف تراه الآن على ما هو عليه ببهائه المفعم و رونقه الرائع..

   ثانيا ابن خلدون لم يتعد اختصاصه في الفتوى كونه مفكر عربي مسلم مؤسس علم الاجتماع و الخبير بشؤون المجتمعات العربية الإسلامية في زمنه..

   فأين وجه الاستدال بقوله و كيف عززت به قولك؟؟

 

   و استدل المعارض كذلك بقول الباقلاني في قوله:

    وأما الكتابة ، فلم يفرض الله على الأمة فيها شيئا ، إذ لم يأخذ على كتاب القرآن وخطاط المصاحف رسما بعينه دون غيره ، أوجبهم عليهم وترك ما عداه ، إذ وجوب ذلك لا يدرك إلا بالسمع والتوقيف ، وليس في نصوص الكتاب ولا مفهومه : أن رسم القرآن وضبطه لا يجوز إلاّ على وجه مخصوص ، وحد محدود ، ولا يجوز تجاوزه ، ولا في نص السنة ما يوجب ذلك ويدل عليه ، ولا في إجماع الأمة ما يوجب ذلك ولا دلت عليه القياسات الشرعية . بل السنة دلت على جواز رسمه بأي وجه سهل ، لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يأمر برسمه ، ولم يبين لهم وجها معينا ، ولا نهى أحدا عن كتابته ، ولذلك اختلفت خطوط المصاحف ؛ فمنهم من كان يكتب الكلمة على مخرج اللفظ ، ومنهم من كان يزيد وينقص لعلمه بأن ذلك اصطلاح وأن الناس لا يخفى عليهم الحال . ولأجل هذا بعينه جاز أن يكتب بالحروف الكوفية والخط الأول ، وأن يجعل اللام على صورة الكاف، وأن تعوّج الألفات ، وأن يكتب على غير هذه الوجوه ، وجاز أن يكتب المصحف بالخط والهجاء القديمين، وجاز أن يكتب بالخطوط والهجاء المحدثة ، وجاز أن يكتب بين ذلك..

 

   الجواب لا يخفى على لبيب، فالباقلاني يقصد كتابة المصحف يعني الخط، و دليل ذلك ما قاله في الأخير، لا فرق بين الخطوط الكوفية و الخط الأول، ولا ضير أن يجعل اللام على صورة الكاف و لكن بشرط أن تبقى اللام هي اللام، ولا ضير أن تعوج الألف و لكن تبقى الألف هي الألف، فالسر هو أن تكون الحروف هي الحروف، اكتبها بأي شكل يرضيك بشرط أن تبقى مهمة الحرف في مكانه، فشتان بين ما يقول الباقلاني و ما استنتجته لغرضك الفاسد فاتق الله..

 

   و يعترض القائل على قول القسطلاني- لأنه تخصص في القول- في قوله:

   وأكثر رسم المصاحف موافق لقواعد العربية، إلا أنه قد خرجت أشياء عنها ، يجب علينا اتباع مرسومها، والوقوف عند رسومها، فمنها ما عرف حكمه ، ومنها ما غاب عنا علمه..

 

   فيقول ردا على القسطلاني:

   والقسطلاني يريد بتعبيره بأن أكثر رسم المصاحف موافق لقواعد الإملاء العربي، وأصول الخطوط، وما خرج عن ذلك يجب اتباعه في نظره، ولا أعلم من أين استفاد وجوب اتباع مرسوم هذه الخطوط، والوقوف عند رسومها، وما هي فلسفة حكمه من الأخطاء الإملائية، وما غاب عنا علمه من الاشتباهات الهجائية، وليست تلك إلا أمور موهومة، دعا إليها الغلو الفاحش، والطيش في العاطفة، وهو نفسه يقول:

   ثم إن الرسم ينقسم إلى قياسي ، وهو موافقة الخط للفظ ، واصطلاحي ، وهو مخالفته ببدل ، أو زيادة ، أو حذف ، أو فصل، أو وصل، للدلالة على ذات الحرف، أو أصله، أو فرعه، أو رفع لبس، أو نحو ذلك من الحكم والمناسبات..

 

   ثم يعلق بكل صراحة لما يريد الوصول إليه:

   وهذا هو التقسيم الصحيح ، والرسم المصحفي اصطلاحي لا شك ، تواضع عليه كتبة المصاحف الأولى ، واشتمل على مخالفة الخط للفظ ، في وجوه البدلية والزيادة والنقصان والحذف والفصل والوصل ، وكان ذلك شائعا في جملة من الحروف ، لا سيما في إبدال الألف ياء ، وزيادة الألف بعد واو الجماعة الداخلة على بعض الأسماء ، وحذفها بعد جملة من الأفعال في ذات المكان ، وإثباتها لبعض الأفعال المعتلة بالواو ، وفي إثبات الهمزة في الوصل حينا ، وحذفها حينا آخر ، وفي ما فيه قراءتان والرسم على أحدهما ، كما هو ملاحظ في جملة من خطوط الرسم المصحفي..

 

   وهكذا وصل صاحبنا إلى مبتغاه و مقصده الذي هو إعادة كتابة القرآن بنهج جديد تراعى فيه قواعد الإملاء، من حيث إنها الأصل في نظره و القرآن هو الفرع، و قواعد الإعراب من حيث إنها سبقت القرآن.. و لا نجد فرقا بين هذا القول و قول بعض من المغضوب عليهم و الضالين من المسيحيين و الصهاينة الذين يقولون أن في القرآن أخطاء، و جمعوا هذه الأخطاء مثل ما يقول صاحبنا هذا، و يقولون لو كان من عند الله ما وجدت فيه هذه الأخطاء النحوية و الإملائية..

   فأخونا هذا قد يكون واحد من اثنين:

   إما أن يكون مسلما يريد أن يصلح ما أخطأ فيه الرسول صلى الله عليه و سلم و الصحابة و التابعين بجهلهم و غفل عنه علماء المسلمين بتعصبهم.. أو يكون واحدا من هؤلاء.. فشلوا في باب تشكيك المسلمين في دينهم وكتاب ربهم، و جاء واحد منهم يختال ليدخل من باب النصح والنصيحة..

   و يضيف صاحبنا كلاما على جلال الدين السيوطي قائلا:

    وقد حصر السيوطي أمر الرسم المصحفي في الحذف ، والزيادة ، والهمز ، والبدل ، والفصل ، وما فيه قراءتان فكتب بأحدهما..

  ولا حرج مطلقا في أن يكتب المصحف كاتب ، أو يطبعه طابع ، بأي هجاء شاء ، مادام لا يخرج عن النطق المطلوب، كما أنزله الله تعالى، وكما تنطق به العرب، إذ لا يختلف اثنان في أن المراد بالقرآن هو ألفاظه ومعانيه، ومقاصده ومراميه، لا هجاؤه ورسمه وهيكله، والقرآن ما رسم بهذا الرسم، ولا كتب بهذا الهجاء ، إلا لأنه الهجاء المعروف المتداول في العصر الأول..

  وما القول بوجوب اتباع الرسم القديم ، وعدم مخالفته وتعديه ، إلا نوع من أنواع التزمت الذي لا يتفق من النهج العلمي ، والارتفاع بتقدير الأوائل من مستوى الاحترام المناسب إلى مستوى التقديس اللامعقول..

  و اعتبر كلام السيوطي حجة له إما جاهلا أو متجاهلا قوله: مادام لا يخرج عن النطق المطلوب، كما أنزله الله تعالى، وكما تنطق به العرب..

   فحاشا سيدي جلال الدين السيوطي أن يقصد ما قصدته بدهائك الشيطاني و بنيت عليه في مخالفتك للبيهقي قائلا:

    وبهذا الملحظ فإننا لا نميل إلى ما قرره البيهقي في « شعب الإيمان » بقوله: من كتب مصحفا فينبغي أن يحافظ على الهجاء التي كتبوا فيها المصاحف ، ولا يخالفهم فيها ، ولا يغير مما كتبوه شيئا ، فإنهم أكثر علما ، وأصدق قلبا ولسانا ، وأعظم أمانة منا ، فلا ينبغي أن نظن بأنفسنا استدراكا عليهم..

   و رجع صاحبنا ناصحا قائلا:

    بل نذهب إلى جواز المخالفة، وتيسير القرآن بالخط والهجاء الذي لا لبس فيه ، فلا يؤدي إلى اختلاف ، ولا يؤول إلى إبهام، وليس في ذلك تحامل على السلف ، فليس الخط ونقصانه مما يشكل استخفافا بهم ، ولا هو يتنافى مع ورعهم وتقواهم ، ولا علاقة له بأنهم أصدق لسانا ، وأعظم أمانة ، ما دام أن الخطوط لم تكن متكاملة المعالم في عهودهم..

   فانظروا حفظكم الله إلى هذا الدهاء الشاطن كيف يتلاعب بأقوال العلماء و يستخرج منهم ما لم يقولوه و يستدل به في إملاء ما يريد إملاءه و توصيل ما يريد توصيله..

 

  هذا و أمثاله لا يغيب سرهم عن عاقل، و لكن المصيبة كل المصيبة، هو جهل بعض أبنائنا و بناتنا و إخواننا و أخواتنا في أن يحملوا حججهم على محمل الصدق و يتخذونها ضد الحق بالباطل جهلا بغير علم و تهورا بغير حلم.. فعلى الإخوان أن يتنبهوا إلى مثل هذه المزالق و المهالك..

 

   و مثل هذا يقال من الجهة المعادية بالجهر، فانظروا إلى مواقع بعض النصارى اليوم فإنكم تجدونهم يقولون نفس الشيء و بنفس الترتيب و بنفس القوام و لنفس الغرض الذي هو تسفيه القرآن كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه..

 

   و ليس هذا وحده و لم يبدأ في هذا الزمن فقط و لكنه قديم قدم الرسالات السماوية، و لكن الذين تخصصوا في تسفيه القرآن و التشكيك فيه لا يخفى أصلهم و لا انتماؤهم على أحد وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَا تَسۡمَعُواْ لِهَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانِ وَٱلۡغَوۡاْ فِيهِ لَعَلَّكُمۡ تَغۡلِبُونَ ٢٦ (فصلت)..

   فالابتعاد عن القرآن سلوك غير كاف بالنسبة للذين كفروا كما هو وارد في الآية، و لكن الغلبة بالنسبة إليهم موقوفة على اللغو فيه، بل و انسياق أمة القرآن مع هذا اللغو و هذا معنى الاستدراك في وَٱلۡغَوۡاْ فِيهِ لَعَلَّكُمۡ تَغۡلِبُونَ..

   و تخصص في اللغو في كتاب الله أفراد وجماعات ، سواء كان ذلك بعلم لما يفعلوه أو بجهلهم لكتاب الله الذي لا يأتيه الباطل..

   في هذا الوقت بالذات برزت طائفة نشرت رءوسها في مجتمعاتنا، ويتكلمون بألسنتا، مركزة كل التركيز في بعض كتاباتها أن القرآن كتاب الله وقع فيه تحريف و زيادة ونقصان، و في البعض الآخر على أمية الرسول الكريم أو عدمها، و استقى الرجل أحاديث الآحاد من المصادر السنية و الشيعية بدهاء ما يشكك ضعيف الإيمان في كتاب الله و رسول الله و جمهور الصحابة.. فلا يسعنا إلا أن نقول لا حول و لا قوة إلا بالله العلي العظيم..

   إن الإسلام دين الله غني عن المتفلسفين كما اغتنى المتفلسفون برأيهم عن الدين، وباختصار شديد.. و ادعاءات مثل هؤلاء لا تستحق اهتماما لأن الأمر فصل فيه العلماء بالله قديما و حديثا فالشك لا يغني عن اليقين، و نهج الفلاسفة بعيد عن الدين، أما زبدة الجواب و فذلكة الحساب ففي قوله تعالى: إِنَّا نَحۡنُ نَزَّلۡنَا ٱلذِّكۡرَ وَإِنَّا لَهُۥ لَحَٰفِظُونَ ٩  (الحجر).. و قوله تعالى: لَا تُحَرِّكۡ بِهِۦ لِسَانَكَ لِتَعۡجَلَ بِهِۦٓ ١٦ إِنَّ عَلَيۡنَا
جَمۡعَهُۥ وَقُرۡءَانَهُۥ ١٧ فَإِذَا قَرَأۡنَٰهُ فَٱتَّبِعۡ قُرۡءَانَهُۥ ١٨ ثُمَّ إِنَّ عَلَيۡنَا بَيَانَهُۥ ١٩
 (القيامة).. فهلا اتبع أحدهم قرآنه إذا تولى الحق قرآنه الذي تولى جمعه و قرآنه حتى يستحق بيانه و تبيانه، فبيانه فضل منه سبحانه موقوف على من أدرك الفرق بين قراءته من قرآنه الذي تولى جمعه سبحانه، و هذا غائب عن غير أهله..

  أما من أراد أن يجس نبض المسلمين من هذا الطرح حتى يلتفتوا إلى كتاب الله و سنة رسول الله صلى الله، فإن كان هذا رأيه في جمع شتات الأمة بهذه الطريقة فهذه مصيبة، أما و إن كان قصده هو فعلا التشكيك أو التشكيك منه بدأ فهذه مصيبة أكبر وأعظم..

 

   فإلى هؤلاء وما أكثرهم حتى من بعض علماء الظاهر الذين حملوا القرآن على الظاهر فقط، أقول لهم: بفعلكم هذا قد سويتهم بين كتاب الله و كتبكم، فاتقوا الله في أنفسكم، فليس كل ما حجب عن النظر ينكر و لا كل معلوم يقال..

 

   وإلى كل من يحمل بذرة من الإيمان أو من يريد أن لا يبقي على أي بذرة من الشك فليساير معنا هذا البحث المتواضع، فهو ليس بحث أكاديمي و لا يلتزم بقوانين البحث المستحدثة، و إنما هو بحث رباني حقيقي مستمد من أصول الأصول، موروث رباني بالسند المتصل عن رسول الله صلى الله عليه و سلم، و مستدل عليه و منبه إليه بالفتوحات الربانية التي اختص بها الكريم من اجتباه من أحبابه و أوليائه..

  فبالله عليكم واصلوا معنا ما لا يمكن أن تصلوه بالعقل و لا في النقل، و لكن بفضل الله إن جاد الكريم بفهمه و شرب أسراره و أنواره فإنه يصح به علمكم و يصلح به العقل و النقل.. فالعلم كالبنيان، علم أسس على حقيقة صلبة فاستثمار الشريعة فيه لا تزيده إلا بهجة و سعة، فذلك العلم بالله و ذلك ما شرعه الله، فالعمل به دين و رسوخه في البواطن وصول لليقين، به يكون إعمار الدنيا و به يصح العلم حتى يتم الانتفاع به، و به يكون الفوز في الآخرة..

   أما العلم الذي أسس على الرأي فلا أساس له في حقائق الأمور وأصولها، فأنّى للشريعة أن تقوم بدون حقيقة و أنا للبنيان أن يسلم قوامه بدون أسس و لا قواعد، و إن حاول صاحبه إقناع الناس به فإنه لا يقتنع هو به بينه و بين نفسه.. أَفَمَنۡ أَسَّسَ بُنۡيَٰنَهُۥ عَلَىٰ تَقۡوَىٰ مِنَ ٱللَّهِ وَرِضۡوَٰنٍ خَيۡرٌ أَم مَّنۡ أَسَّسَ بُنۡيَٰنَهُۥ
عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَار
ٖ فَٱنۡهَارَ بِهِۦ فِي نَارِ جَهَنَّمَۗ وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّٰلِمِينَ ١٠٩(التوبة)..

   قال تعالى: (ما فرطنا في الكتاب من شيء)، فكيف يغيب على عاقل أن الرحمن الذي نزل القرآن لم يفرط في القرآن في شيء من العلوم ما علمها الإنسان و ما يعلمها و في نفس الوقت يكون قد فرط في خط القرآن و حفظ آياته أو سوره أو حتى حروفه..

      من لم يكتف بالله ربا فالشيطان يطغيه، و من لم يكتف بالقرآن واعظا فالنفس تشقيه، و من لم يكفه بسيدنا محمد نبيا ورسولا فله في أعدائه استحقاق فيه.. هُوَ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ مِنۡهُ ءَايَٰتٞ مُّحۡكَمَٰتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلۡكِتَٰبِ وَأُخَرُ مُتَشَٰبِهَٰتٞۖ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمۡ زَيۡغٞ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَٰبَهَ مِنۡهُ ٱبۡتِغَآءَ ٱلۡفِتۡنَةِ وَٱبۡتِغَآءَ تَأۡوِيلِهِۦۖ وَمَا يَعۡلَمُ تَأۡوِيلَهُۥٓ إِلَّا ٱللَّهُۗ وَٱلرَّٰسِخُونَ فِي ٱلۡعِلۡمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِۦ كُلّٞ مِّنۡ عِندِ رَبِّنَاۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّآ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ  رَبَّنَا لَا تُزِغۡ قُلُوبَنَا بَعۡدَ إِذۡ هَدَيۡتَنَا وَهَبۡ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحۡمَةًۚ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡوَهَّابُ ٨ آل عمران..

 

0 Commentaire(s)

Poster un commentaire