كلمة أخيرة:

لعلي أبرزت بعض الجوانب الغامضة في علاقة الجن بالإنس ، وهي في الواقع أعمق وامتن من هذا بكثير، ذكرت منها ما هو أقرب للفهم وأنفع للناس، لعل هذه الهالة من الخوف والتعتيم ترتفع عن تصورات الناس.. سكت عما لا يطيقه عموم الناس وحتى لا ندخل مع بعض إخواننا في جدالات عقيمة نحن في غنى عنها ولن تفيد البحث من قريب أو بعيد...

أما ما ذكرته فلأهميته، وأسأل الله العظيم، رب العرش العظيم، أن تنشأ خلية للبحث الجاد في هذه المواضيع القليلة ومثيلاتها التي لم أتوفق لذكرها، لأن الأمر لا يحتمل الانتظار، خصوصا في أمتنا الإسلامية التي افتقد عندها النظام الغذائي السليم وانقلب رأسا على عقب، وتشبث الناس بأسباب الحياة المادية، مغيبين كل أسباب التكوين الطبيعي والتأثير الرباني، النابع من سلوك الأقوال والأفعال والأحوال، والمتأثر بأصول الطبائع وفصولها... فأصل سلوك الفرد جزء لا يتجزأ من حياته اليومية وحصانته الإيمانية وتركيبته الصحية وضمان علاقاته الاجتماعية...

سكتّ في الواقع عن كثير من الأمور (وإن كان موضوعنا هو الطب الإسلامي) لارتباط الكل بالكل، وإلا فمتى كان عمل العبد بعيدا عن فكره، وعقله منقطعا عن إحساسه.. ومتى كان كيانه مستقلا عن التأثيرات الخارجية والمؤثرات الإجبارية، التي يقف الإنسان أمامها موقف الاضطرار كالماء والغذاء والهواء والجاذبية والمغناطيسية والزمان والمكان، والمؤثرات الفيزيائية الخارجية كلها والتأثيرات الكيميائية الداخلية برمتها... .

هذه الأصول الطبائعية والتجاذبات النفسية والمؤثرات الداخلية والخارجية، هي جزء لا يتجزأ من حياة الإنسان ومكوناته في كل عضو وأي حاسة وكل ما دقّ أو جلّ، أو ظهر أو خفي، من الشعر إلى الظفر مرورا بكل خلية ومهمتها وتكوينها وترتيبها وبرمجتها ونظام حياتها ودرجة أهميتها...

كل ذلك وغيره مما عرفه الإنسان وما لم يعرفه وما لا يمكن أن يعرفه، سطرته أيادي القدرة ورتبته أنامل الحكمة حتى يكون هذا الإنسان قطب المخلوقات ومحور الكائنات وحوله تدور الحياة بكل الخيرات.. فالإنسان فيها نقطة وصل بين الأنوار والمنورات من الكائنات والمكونات

هذا كان مبدأ حياة الإنسان التي فطر الله عليها الناس، وكل نقص في المعرفة أو تقزم في الإمكانيات أو تدحرج في طريقة كسب المعلومة الأصلية والحقيقية، هو مرجوع إلى انتكاس الإنسان في سلوكه التقويمي الذي بلغه بالوحي الرباني على يد أنبياء الله ورسله، وهذا هو المقصود بأصل الدين ومشرب السنة ومنهج الهداية وصراط الاستقامة.. فإذا كان من الفرائض ان يقرأ العبد في توجهه إلى الله عدة مرات في اليوم بالصلاة بقوله: ٱهۡدِنَاٱلصِّرَٰطَ ٱلۡمُسۡتَقِيمَ (فإنه يطلب من الله الثبات على هذا الصراط وهذا المنهج) صِرَٰطَ ٱلَّذِينَ أَنۡعَمۡتَ عَلَيۡهِمۡ غَيۡرِ ٱلۡمَغۡضُوبِ عَلَيۡهِمۡوَلَا ٱلضَّآلِّينَ.. والناس في نعمة الهداية على ثلاث:

الأول: سمع الهدى ووعاه، وعمل بمقتضاه، ونهى النفس ونبذ هواه، وتزود لدينه ودنياه.. فهو من الذين أنعم الله عليهم.. قال تعالى: قُلِ ٱللَّهُ يَهۡدِي لِلۡحَقِّۗ أَفَمَن يَهۡدِيٓ إِلَى ٱلۡحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لَّا يَهِدِّيٓ إِلَّآ أَن يُهۡدَىٰۖ فَمَا لَكُمۡ كَيۡفَ تَحۡكُمُونَقُلِ ٱللَّهُ يَهۡدِي لِلۡحَقِّۗ أَفَمَن يَهۡدِيٓ إِلَى ٱلۡحَقِّ أَحَقُّ أَنيُتَّبَعَ أَمَّن لَّا يَهِدِّيٓ إِلَّآ أَن يُهۡدَىٰۖ فَمَا لَكُمۡ كَيۡفَ تَحۡكُمُونَ... (رَبَّنَا لَا تُزِغۡ قُلُوبَنَا بَعۡدَ إِذۡ هَدَيۡتَنَا وَهَبۡ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحۡمَةًۚ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡوَهَّابُ)...

والثاني: سمع واستكبر، وعارض وأنكر، وساقه هواه للمنكر، وحارب الحق بالكُبر.. فهو من المغضوب عليهم.. قال تعالى: وَلَٰكِن مَّن شَرَحَ بِٱلۡكُفۡرِ صَدۡرٗا فَعَلَيۡهِمۡ غَضَبٞ مِّنَ ٱللَّهِ وَلَهُمۡ عَذَابٌ عَظِيمٞ، ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمُ ٱسۡتَحَبُّواْ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا عَلَى ٱلۡأٓخِرَةِ وَأَنَّ ٱللَّهَ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلۡكَٰفِرِينَ ، أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ وَسَمۡعِهِمۡ وَأَبۡصَٰرِهِمۡۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡغَٰفِلُونَ..

والثالث: عمى وضل، وانحرف وزل، وإنذا عزم على الحق كلّ وملّ، بسقت العلل من انحراف دينه فدهور دنياه، وضللت بدع دنياه على حقيقة دينه، فلا دينه يحمي دنياه من الهرف، ولا دنياه تنفع دينه من التلف، انشغل بالأثر عن الجوهر، وبالنفس عن النفيس.. إن سمع الهدى استعذبه ولم يجد إليه سبيلا، وإن سمع الضلالة استحسنها وانغمس فيها أمدا طويلا.. لا تقعد معه فيلهيك، ولا تسمع له فيغويك، ولا تعارضه فيفتنك بجهله، قال تعالى: وَأَعۡرِضۡ عَنِ ٱلۡجَٰهِلِينَ.. وقال تعالى: قُلۡ هَلۡ نُنَبِّئُكُم بِٱلۡأَخۡسَرِينَ أَعۡمَٰلًا، ٱلَّذِينَ ضَلَّ سَعۡيُهُمۡ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَهُمۡ يَحۡسَبُونَ أَنَّهُمۡ يُحۡسِنُونَ صُنۡعًا.. وللضلالة كذلك دركات كلما هوى في اتباع الهوى ومحاربة الهدى كانت ضلالته أبعد وأهوى قال تعالى: ٱلَّذِينَ يَسۡتَحِبُّونَ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا عَلَى ٱلۡأٓخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِٱللَّهِ وَيَبۡغُونَهَا عِوَجًاۚ أُوْلَٰٓئِكَ فِي ضَلَٰلِۢ بَعِيدٖ..

ولما كانت الهداية قطب التوجه في الفاتحة الشريفة بين " إِيَّاكَ نَعۡبُدُ وَإِيَّاكَ نَسۡتَعِينُ" وكان مركز نورها " ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ" وسرّ بركتها " ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ" كان مشرع حكمها وحكمتها " مَٰلِكِ يَوۡمِ ٱلدِّينِ" وكان الإنسان فيها مركز التلقي من لدن حكيم عليم، ومرصد الإلقاء للكائنات والمكونات في العالمين..

فالحكمة الربانية اقتضت توسط هذا المخلوق "الإنسان" بين المدد الإلهي للخلقة الآدمية والإمداد الرباني للكائنات المخلوقية، وسيجت القدرة الربانية بين المدد والإمداد بخلافة الإنسان في الأرض وتموقعها وسطية بين المدد الرباني والإمداد الرحماني.. فإذا أوفى العبد بخلافته وأوصل المدد بالإمداد أوفى بعهده وأتقن في مهمته، أما إن أوقف الإمداد لغيره منعته القدرة التزود بالمدد لنفسه... وهكذا يحصل الخلل في الفرد ...

0 Commentaire(s)

Poster un commentaire