مفهوم الأمّة .. شروقها و أفولها..

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهم صل على سيدنا محمد النبي الأمي و على آله و صحبه و سلم تسليما..

يقال: الأمة في اللغة للقرن من الناس، و يقال أمة نبي لكل من بعث فيهم من مؤمن و كافر، فأمة رسول الله صلى الله عليه و سلم هم جميع الناس بدليل قوله تعالى: (وَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ إِلَّا كَآفَّةٗ لِّلنَّاسِ بَشِيرٗا وَنَذِيرٗا وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ ٢٨)، و يقال الأمة: الجماعة التي يؤلف بينها رابط من دين أو أصل أو مكان أو نحوه حتى يمكن أن يقال أمة الجن أو الطير أو السباع... قال تعالى: (وَمَا مِن دَآبَّةٖ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَا طَٰٓئِرٖ يَطِيرُ بِجَنَاحَيۡهِ إِلَّآ أُمَمٌ أَمۡثَالُكُمۚ مَّا فَرَّطۡنَا فِي ٱلۡكِتَٰبِ مِن شَيۡءٖۚ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمۡ يُحۡشَرُونَ)، وهذا يدل على خصوصية الرسالة لإثبات عموميتها ، ذلك أن صلاح أمة الإيمان نافع لصالح الأمم حتى من غير البشر، و فساد الإيمان مضر بالأمة نفسها و الأمم من حولها، و دليل هذا قوله تعالى: (وَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ إِلَّا رَحۡمَةٗ لِّلۡعَٰلَمِينَ)..

و تسمى أمة خصوص، إذا تخصصت في الصلاح و تعمل على فلاح الأمة بالإيمان قال تعالى: (وَلۡتَكُن مِّنكُمۡ أُمَّةٞ يَدۡعُونَ إِلَى ٱلۡخَيۡرِ وَيَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِۚ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ ١٠٤) و قال تعالى: (وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ)..

و قد جاءت هذه الكلمة في كتاب الله بأوجه تُلزم الأمة المحمدية التموقع الصحيح والتوجه السليم لمسؤوليتها بين الأمم بدليل قوله تعالى: (وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَٰكُمۡ أُمَّةٗ وَسَطٗا لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيۡكُمۡ شَهِيدٗاۗ).. فلنعرف أولا معنى "أمة " و معرفة ما انطوت عليه من أسرار و أنوار و هي على أنوار الحروف كما يلي:

فإذا أردنا أن نوضح بعض ما يمكن توضيحه من خلال أنوار الكلمة نجد أن لها أنوارا ثلاثة و هي بمثابة شروط في استيفاء هذه الخاصية الربانية و هي كما يلي:

1) الألف لها امتثال أمر الله تعالى، و الجليل جل في علاه هل خالق كل شيء و مبدعه و العالم به و المحيط به في السموات أو في الأرضين أو في ما بينهما أو في ما دونهما قال تعالى: (إِن كُلُّ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ إِلَّآ ءَاتِي ٱلرَّحۡمَٰنِ عَبۡدٗا ٩٣ لَّقَدۡ أَحۡصَىٰهُمۡ وَعَدَّهُمۡ عَدّٗا ٩٤ وَكُلُّهُمۡ ءَاتِيهِ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ فَرۡدًا ٩٥ )، فإلـهنا و ربنا و مولانا هو الخالق المطلق، و كل ما دونه هو العبد المحقق، فالعبد عبدٌ سواء امتثل بذلك اعتمادا بإبراز شروط العبودية عليه في امتثال أمر الله و اجتناب نهيه و هذا يدخل في خصوص الأمة، أو قهرا، بنكران حقيقة عبوديته إسنادا بعدم امتثال أمر الله و عدم اجتناب نهيه مع الانسياق إلى قضائه و قدره و الخضوع إلى حكمه و حكمته، و هذا يدخل في أمة الإجابة إن كان غفلة أو سهوا، أو في أمة المتابعة إن كان تمنعا أو تمردا..

و أما الفتح في ألف الامتثال فله نور الإنصاف، فأول ما ينصف العبد أولا نفسه قبل إنصاف الغير، و لا يكون الخير من العبد قبل توفره عليه، و لا ينفق العبد إلا فيما استخلفه الله فيه، ففاقد الشيء لا يعطيه، و من لم يتوفق في إنقاذ نفسه فكيف ينقذ غيره قال تعالى: (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ قُوٓاْ أَنفُسَكُمۡ وَأَهۡلِيكُمۡ نَارٗا وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلۡحِجَارَةُ).. فمن عرف كيف ينصف نفسه بامتثال أمر الله و اجتناب نهيه عرف كيف ينصف من عليه مسؤوليته..

2 ) الميم لها الذكورية، و معناها ضمان الاستمرارية في هذه الحياة، و هذه النقطة الثانية و الشرط الموالي، والمعنى أنه إذا امتُثل أمر الله و انتُهي عن ما نهى عنه، وقع ضمان في الأمة برفع العذاب عنهم أولا في الدنيا ثم بعد ذلك في الآخرة، فأمة الخصوص ضمان لأمة العموم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز و جل عندما تكثر المعاصي عند العموم: ( إني لأهم بأهل الأرض عذابا فإذا نظرت إلى عمار المساجد و المستغفرين بالأسحار صرفت العذاب عنهم ) و قال تعالى على لسان نوح عليه و على نبينا الصلاة و السلام: (فَقُلۡتُ ٱسۡتَغۡفِرُواْ رَبَّكُمۡ إِنَّهُۥ كَانَ غَفَّارٗا ١٠ يُرۡسِلِ ٱلسَّمَآءَ عَلَيۡكُم مِّدۡرَارٗا ١١ وَيُمۡدِدۡكُم بِأَمۡوَٰلٖ وَبَنِينَ وَيَجۡعَل لَّكُمۡ جَنَّٰتٖ وَيَجۡعَل لَّكُمۡ أَنۡهَٰرٗا ١٢ مَّا لَكُمۡ لَا تَرۡجُونَ لِلَّهِ وَقَارٗا ١٣ وَقَدۡ خَلَقَكُمۡ أَطۡوَارًا ١٤).. فالشرط الثاني من شروط الأمة أن تكون ضامنة لاستمرار الحياة على هذه البسيطة، لأن الله أودع فيها بفضله و علمه و جوده هذا النور الضامن الذي هو نور الميم، فإن تخلفت الأمة و استحبت الظلام على النور و الضلالة على الهدى فقد استحقت نقمة الانقطاع بعد نعمة الإمداد و سخط عدم النفع و الإبعاد بعد رحمة الإيجاد..

فالشاهد عندنا أن الأمة إذا انقطع منها الخير انقطع عليها كل خير، و إذا لم يبق منها أي نفع لم يبق لها أي نفع، و دليله كثير في قصص القرآن كمثل دعاء نبي الله نوح بعدما أوحي إليه من قوله تعالى: (وَأُوحِيَ إِلَىٰ نُوحٍ أَنَّهُۥ لَن يُؤۡمِنَ مِن قَوۡمِكَ إِلَّا مَن قَدۡ ءَامَنَ فَلَا تَبۡتَئِسۡ بِمَا كَانُواْ يَفۡعَلُونَ ٣٦) فكان دعاؤه بالفطرة الحقيقية كما جاء في قوله تعالى: (وَقَالَ نُوحٞ رَّبِّ لَا تَذَرۡ عَلَى ٱلۡأَرۡضِ مِنَ ٱلۡكَٰفِرِينَ دَيَّارًا ٢٦ إِنَّكَ إِن تَذَرۡهُمۡ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوٓاْ إِلَّا فَاجِرٗا كَفَّارٗا ٢٧) فكان حكم الله فيهم: (وَأَهۡلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيۡهِ ٱلۡقَوۡلُ وَمَنۡ ءَامَنَۚ وَمَآ ءَامَنَ مَعَهُۥٓ إِلَّا قَلِيلٞ)..

فنور الميم هو ضمان الاستمرارية و الإعمار بالحق، و لذلك جاء في اسم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم مرتين، فالميم الأولى جاءت لسعادة المعرفة في الدنيا و الثانية جاءت للنجاة والنعيم في الآخرة..

و كما سبق ذكره أن الأمة كلما خلت من أنوار الميم حق قول الله فيها بالإنهاء إلا إذا كان من يضمن استمرارها ممن سيخلفها و هذا دليله في أهل الطائف عندما آذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزل ملك الجبال ينتظر إشارة من الحبيب المحبوب، فلم يلتفت إليه الحبيب و إنما التفت إلى حبيبه عز ربي و جل مبتهلا قائلا: اللهم أخرج من أصلابهم من يقول لا إلـه إلا الله.. فقال ملك الجبال: صدق من سماك الرءوف الرحيم.. فرسول الله كان يعلم تمام العلم أصل النور و بما به يقوم، كيف لا و هو الذي انشقت منه الأنوار و انفلقت منه الأسرار و فيه ارتقت الحقائق...

أما حركة الميم التي هي الفتح و تعني سكون الروح في الذات، و قد سبق بعض من معاني النور، و ملخصه أن الروح لا تسكن إلا بسكون الجوارح في طاعة الله، وتوازن الفعل الظاهري بالمعتقد الباطني، هناك يكون تساكن و سكون بين الروح و الجسد، و هي المدخل هنا لنور الميم من كلمة " أمة"..

3) النور الثالث من كلمة " أمة" فهو الهاء، و هو من حروف القبض و له من الأنوار النفرة عن الضد، يعني الالتزام بالحقيقة و السعي و السير فيها، و هذا هو الشرط الثالث لاستمرار الأمة الضامنة، و المعنى انها بعد ما تمتثل أمر الله و تجتنب نهيه، و تصبح ضامنة لاستمرار الحياة، يجب عليها أن تحافظ على هذه المكانة بالشرط الموالي و هو نور الهاء بأن تنفر من كل شيء و من أي شيء يبعدها عن فطرة الطبع وحقيقة الشرع، و ذلك معنى قوله تعالى: (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱصۡبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ ٢٠٠)..

فالصبر على امتثال أمر الله واجتناب نهيه، و ذلك نور الألف، و المصابرة على النفع و الانتفاع، و ذلك نور الميم.. و المرابطة على الالتزام و عدم المحايدة عن طريق الله، و ذلك نور الهاء.. و هذه هي عين التقوى و باب الفلاح بإذن الملك الفتاح..

أما حركة الهاء فالضم و هو من حروف القبض و له من الأنوار القوة الكاملة في الانكماش، فعلى العبد المؤمن أن تكون فيه منعة من النظر إلى ما يورث وسوسة الشيطان و مخالفة الرحمن و أماني النفس والسكون إلى مألوفات الطبع، فكل هذا موجود في الركون إلى الدنيا و ما فيها قال تعالى: (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيۡنَيۡكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعۡنَا بِهِۦٓ أَزۡوَٰجٗا مِّنۡهُمۡ زَهۡرَةَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا لِنَفۡتِنَهُمۡ فِيهِۚ وَرِزۡقُ رَبِّكَ خَيۡرٞ وَأَبۡقَىٰ ١٣١)..

0 Commentaire(s)

Poster un commentaire