مفهوم الطب:

الطب في اللغة: علاج الجسم أو النفس مما ألحق بها فانتقص من صحة أدائها... وعليه يقال رجل طبٌّ أو طبيب إذا كان عالما بهذا، والطبيب في الأصل هو الحاذق بالأمور والعارف بها، وعليها سمي الطبيب الذي يخرج المريض من ضيق المعاناة إلى فسيح المعافاة، ومن ظنك الألم إلى جنة السلامة والعافية...

والطب قديم قدم الإنسان، لكن العلة سبقته، وهي أصله في الوجود وشاهده ودليله في البحث، وهي (إن شئت قلت) آلية لتصحيح السير المادي والمسير المعنوي في الإنسان.. فالإنسان يحس بالجوع او العطش إذا انتقص منه شيء في بدنه، فإذا لم تلبّ حاجة الجسد زاد تفاعل الإحساس بالجوع أو العطش وتطور إلى مؤشرات خصوصية، وذلك تداعي الأعضاء المتوقفة على هذا الماء أو الغذاء، وإذا لم يجد الإنسان سبيلا لتلبية الجسد، فإن الذات تغطي الخصاص بما تملك، فتتحول التغذية أوتوماتيكية من الذهون المخزنة إلى ما شاء الله، وفي كل مرحلة من المراحل يخبر مؤشر الخصاص في الإنسان بنبرة ألمية او مغصية أو تأثيرية... إلى أن تصل العلة إلى المؤشر نفسه فيكون الإغماء..

فإذا قال طبيب: نريد أن نعالج الجوع أو العطش بإزالة الإحساس بهما نقول له انت موهم بالعلاج.. وإذا قال نعوض النقص في الغذاء أو الماء بمواد تشبه إلى حد ما الماء أو الغذاء وهي في الأصل ليست كذلك نقول أنت كاذب في العلاج، لأنك قد دلّست بإضافتك إلى الطبيعة ما ليس منها، وبتزويرك لمسمياتك تكون قد افسدت الكائن وأتلفت المكون، وهذا عين الفساد وإن ألبس أسمى جلابيب الصلاح...

هذا في الواقع تعريف بسيط نريد أن نبدأ منه لتأصيل ما يجب تأصيله في مفهوم طب حقيقي إسلامي تسنده قواعد حقيقية في العلم الديني، وتجمعه مكونات طبيعية في العلم التجريبي، حتى نفهم فلسفة المرض أو العلة، أو بالمعنى الذي نطمح إليه: حتى نُرجع للعضو المريض في الجسد ما سُلب منه من المكونات والمؤهلات..

كان الاهتمام بالطب في كل الأزمان والأمكان، وكان الإلمام به حسب مكونات أهله وحسب العقائد والشرائع والملل، وكان الميل فيه حسب التكوين والتعليل.. فمن نظرة ظاهرا لا باطن له، ومن نظرة باطنا يعكسه الظاهر، ومنهم من نظره طاقات يجب ترشيدها بعد وجود الخلل فيها، ومنهم من نظره مربوطا بالمأكل والمشرب والسعادة والشقاء، ومنهم من نظره مربوطا بغضب الطبيعة ونقمة الشياطين...

والواقع انه شيء من كل ما ذُكر، فمن انحاز إلى شيء منفرد متجاهلا ما هو دونه، افتقد ربما منافع ما جهل وعطل الانتفاع بما به لم يعلم أو يعمل، ومن أراد ان يعمل بها كلها لم يتوفق لأنها تخصصات في كل شيء، لو كان عمرك دهرا وساعتك شهرا لم تنل منه بالبحث والتدقيق إلا كما يأخذ المخيط إذا أدخل في البحر، ومن كان عمله وفعله ونيته "على اسم الله" نال به الشفاء والبركة...

إذا رجعنا إلى قاعدة البيانات الربانية "كتاب الله" وبيانها "سنة رسول الله" نجد أمورا عجيبة لا تخطر على بال كثير من الناس في مجتمعاتنا "المتقدمة".. ذلك أن كلمة "طب" أو تطبيب، أو علاج... لا تجد لها وجود في كتاب الله.. لا على مستوى الكلمات ولا مستوى الجدر، ولكن الذي تجده هو: "مرض وشفاء"..

قال تعالى على لسان أبينا إبراهيم: ... إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ .. الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ .. وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ .. وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ.. وهذا قول فصل، وتشخيص علمي عدل في أن المرض يرجع سببه إلى المريض نفسه بدليل قوله تعالى: وَإِذَا مَرِضْتُ.. والشفاء منه لا يمكن أن يكون إلا بمراد إلهي وحجته قوله تعالى: فَهُوَ يَشْفِينِ..

ومعناه أن القدرة الربانية أوجدت مقومات تقوم عليها صحة الفرد، وإن عُلم بعضها فإنه يستحيل على مخلوق البتة الإحاطة بها كلها (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ)، وأوجد لها آليات بها تصان وتعاليم بها تحفظ (ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)..

فإن تعطلت بسبب ظاهر أو بعذر قاهر، كان مسيرها في إعادة بنائها بنفس المسير الذي تم بها تعطيلها... ومن انتهج من الطب الرباني مشربا، ومن أدبيات الشفاء مذهبا، كان يدا للقدرة على إزهاق الباطل المتحصل بالحق المتأصل.. بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ..

فعادة المرض أن يأتي بسبب .. فإذا تهيأت أسبابه الحسية وتمكن من الجوهر والمخبر، انتشر في الجسد واستجابت له الأعضاء التابعة قال تعالى: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا.. وجاءت هذه الكلمة العظيمة: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ.. في حوالي إثنى عشر موقعا من القرآن، كل منها يدل على شعبة من أمراض القلوب الحسية والمعنوية (التي تحركها الحواس الباطنة، بعدما تداولتها الحواس الظاهرة برضى واطمئنان) فانطبعت بذرتها في القلب وبسقت أغصانها سلبا على صحة الفرد العضوية.. أما ما تم به تفسير المفسرين (مشكورين) على بعض أنواع أمراض القلوب، فهو كلام أدبي في الدين ولا علاقة له بجوهر القرآن وحقيقة الدين..

كان أحد الصالحين إذا تعثرت دابته أو عصته زوجته، يرجع إلى نفسه ويتذكر ما فيه أخطأ أو قصّر...

ولعل السائل يسأل ما علاقة المرض العضوي بالعمل الديني؟؟

نقول له اقرأ من حديث ابن عمر قوله صلى الله عليه وسلم: مَا ظَهَرَتِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ حَتَّى أَعْلَنُوهَا إِلا ابْتُلُوا بِالطَّوَاعِينِ وَالأَوْجَاعِ الَّتِي لَمْ تَكُنْ فِي أَسْلافِهِمُ الَّذِينَ مَضَوْا، وَلا نَقَصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِلا ابْتُلُوا بِالسِّنِينَ وَشِدَّةِ الْمُؤْنَةِ وَجَوْرِ السُّلْطَانِ، وَمَا مَنَعَ قَوْمٌ زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلا مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ، وَلَوْلا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا، وَلا خَفَرَ قَوْمٌ الْعَهْدَ إِلا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوَّهُمْ مِنْ غَيْرِهِمْ فَأَخَذَ بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ..

وهذا له تحليل معمق ومخصص.. علماء الفيزياء في الغرب يبحثون في أسراره بعدما دلتهم عليه التجارب، وأوقفتهم عليه المؤشرات الحسابية الدقيقة... ولو تخصص بعض من علماء المسلمين في تقريب هذه المفاهيم الربانية لكانت خير دلالة على الله من فقه الأقليات أو فقه التعارف...

ونحن في موضوعنا نود توسيع الرؤية للمؤمن حتى نناقش معا ما ورد في العلم (الطب) التجريبي العالمي، والذي وقف أمامه الخبراء حيارى، والجواب على طبق من نور في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ونحن عنه غافلون وناكرون ومعرضون، وكأنه لم يكن في الدين إلا تفسيق وتبديع، أو تكفير وتفجير...

0 Commentaire(s)

Poster un commentaire