القلوب الغليظة
- القلوب الغليظة :
الغلظة في اللغة هي الجهامة والشظف والجشرة... وهي نتاج الفظاظة والقسوة والعداوة... وذلك تبينه الآية العظيمة من قوله تعالى: "فَبِمَا رَحمَة مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُم وَلَو كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ ٱلقَلبِ لَٱنفَضُّواْ مِن حَولِكَ" فغلظة القلب "مرض قلبي" تسبقه الفظاظة والقسوة (وهما سلوك فعلي)، وعكس غلظة القلب ليانته "لِنتَ لَهُم"، والقلب اللين هو: الساكن اللدن الهادئ الدمث الرخي الرطيب الطيب... ولا يكون إلا برحمة الله، والرحمة فلاحة رحمانية قال ﷺ (ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء)..
تنبيه: هناك فرق بين الغلظة (السلوك) والغلظة (المرض القلبي)، فتكون أحيانا مطلوبة كسلوك تبعا لأصل المتعامل معه، ومثاله: أنه لا يكون التعامل مع الحديد بمثل ما يتعامل مع الحرير، ولا يكون التعامل مع صلب الطباع في المواد كالتعامل مع سهلها ورخوها... ونفس القياس يكون التعامل به مع الأشخاص ذوي "القلوب الغليظة" بالكفر أو النفاق فلا يجزي معه إلا التعامل بالسلوك الغليظ (وليس "بغلظة القلب" قال ربنا: "يَأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ جَٰهِدِ ٱلكُفَّارَ وَٱلمُنَٰفِقِينَ وَٱغلُظ عَلَيهِم" وقال ربنا: "أَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ قَٰتِلُواْ ٱلَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ ٱلكُفَّارِ وَليَجِدُواْ فِيكُم غِلظَة".. فالملخص: أن غلظة السلوك مع غلاظ الطباع والقلوب مطلوبة، أما الغلظة مع المؤمنين (ولو كانت على حق) فإنها ليست من ليانة القلب، ولا من الرحمة، وتكون حتما مسببة لانفضاض النفوس من حولك ونفورهم من فضاضتك وغلظتك..
وإذا أردنا ان نعرب أس الفعل "غلظ" فإننا نجد ثلاثة حروف، وفي إعرابها حكمة بالغة وهي كما يلي:
- الغين لها كمال الصورة الظاهرة، فإذا انتكس النور في غليظ القلب فإن ملامح وجهه تتشكل من حسن الخلقة إلى سوء ما اكتسبه المغلظ، فتأخذ عينيه أشكالا معبرة عن شر النظر، ووجهه عبوسا موقعا عنوان الغلظة، ويصم سمعه على الأعذار ونظره على العبر والاعتبار، وما يتبع ذلك من قرار وإقرار..
- اللام ولها العلم الكامل، فظلمة الغين تغيب مسالك الرحمة ومدارج العفو، فتغلظ النفس وتغيب السماحة والحلم ويفتح باب الانتقام...
- الظاء لها نور حظ الشيطان، وعند غياب النور يحظر الشيطان، وتشرع له الأبواب فيأخذ بكل حظ له سابق ويدشن كل مشروع له لاحق، فلا يبقي في سلوك الأنوار ولا يذر، حقدا وبغضا لبني البشر..
أما بالنسبة لحرفنا فهو الغين: وكما سبق فله كمال الصورة الظاهرة، وعادة الصورة الظاهرة أنها تعكس الصورة الباطنة، ويدخل في علم السماة، قال ربنا: "سِيمَاهُم فِي وُجُوهِهِم مِّن أَثَرِ ٱلسُّجُودِ" وقال ربنا: "يُعرَفُ ٱلمُجرِمُونَ بِسِيمَٰهُم فَيُؤخَذُ بِٱلنَّوَٰصِي وَٱلأَقدَامِ" فالصورة الظاهرة تعكس حقيقة الحال، فهو حرف جسدي بامتياز، وهو في آن واحد يرتبط بالقلب وإحساسه من جهة والعقل وفكره من أخرى وكذلك بالحواس..
- القلوب المختومة :
يقال أختم في اللغة إذا أنهى أو أنفذ أو فرغ... وعكسه أبدأ أو استهل أو استهل... والختم على القلب معناه إرصاده وغلقه فلا يفهم شيئا ولا يحس بشيء، وكأن حواس القلب فيه تتعطل، فإذا قال ربنا: "خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِم وَعَلَىٰ سَمعِهِم وَعَلَىٰ أَبصَٰرِهِم غِشَٰوَة وَلَهُم عَذَابٌ عَظِيم" فالختم على القلوب موجب للختم على الأسماع والأبصار على السواء، ومستحق للعذاب العظيم، وهو في حق الكافرين (كما تبينه الآية قبله) "إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيهِم ءَأَنذَرتَهُم أَم لَم تُنذِرهُم لَا يُؤمِنُونَ" فختم القلب إنهاء مهام القلب الإحساسية ولا تبقى فيه إلا القاسية والظلمانية..
فالقلب المختوم سكنته ظلمات "ختم"، أما موجبات الختم فهي الكفر واتباع الهوى قال ربنا: "أَفَرَءَيتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَٰهَهُۥ هَوَىٰهُ وَأَضَلَّهُ ٱللَّهُ عَلَىٰ عِلم وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمعِهِۦ وَقَلبِهِۦ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِۦ غِشَٰوَة" ولعل باب اتباع الهوى أصبح متجاهلا إلى حد ما في آخر الزمان بعبث العابثين وتساهل المسلمين (بصرف النظر عن الكافرين).. فهل يعتبر الهوى إِلَٰهَها من دون الله؟؟
الجواب ما أخبر به ربنا والتوصيف ما دلت عليه آيات الكتاب العظيم كقوله تعالى: "أَفَرَءَيتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَٰهَهُۥ هَوَىٰهُ" والكلام يطول في الباب وقد وقع بسطه في غير هذا المكان وهذا ملخصه:
فملخص ظلمات كلمة "هَوَىٰهُ" متى تحققت في العبد فقد اتخذت إِلَٰهَها من دون الله، وهي موجبة للضلال على علم وختم السمع والقلب وجعل الغشاوة على البصر (فماذا يبقى للإنسان من إيمان ؟)، وقد بين لها كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل، ولكنها لم تعن بانتباه المهتمين وتحقيق المختصين كقوله تعالى في قول قوم نوح: "وَقَالُواْ لَا تَذَرُنَّ ءَالِهَتَكُم وَلَا تَذَرُنَّ وَدّا وَلَا سُوَاعا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسرا" فالتوصيف هنا لآلهة، وبكل احترام للمفسرين الذين قالوا أنها أصنام خمسة عوضت خمس علماء، فهو كلام لا يرد (ولكن عندما سميت: "وَدّا وَسُوَاعا وَيَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسرا" فتحت بالطبع باب الإعراب النوراني لهذه الأسماء الخمسة، ومن تفقدها يجدها سلوكا ظلمانية إذا اجتمعت حسب السياق القرآني فإنها تكوّن كتلة يستحيل أن يستقيم معها إيمان وهي بإيجاز شديد كما يلي:
"وُدّاً" متى فتحت ظلمة الواو (تفتقت معها أطماع النفس الأمارة بالسوء)، وظلمة الدال (متى هيمنت أغرقت صاحبها في الخبث والخباثة والنجاسة) والألف متى غاب نوره بالامتثال (أصبح العبد لا يطاق ولا يحتمل ولا يؤتمن) (فتصوره بهذا الوصف)..
"سواعا" غياب السين تحضر الكبر والعلو، وغياب نور الواو (يفتح شهوات النفس) وغياب الألف (يفتح باب العصيان) وظلمة العين (تغيب العفو) والألف تؤكد العصيان في كل شيء..
"يغوث" غياب الخوف من الله بغياب الياء، وفساد الصورة الظاهرة يحصل بغياب الغين، وهيجان النفس بغياب الواو، وغياب الإنصاف يكون بغياب الثاء (فافهم وتصور)
"يعوق" غياب الخوف من الله للياء وغياب العفو للعين وهيجان النفس للواو والطمس لغياب نور القاف...
"نسرا" غياب الفرح بالله لغياب النون، وغياب نور السين له التكبر والتجبر والوقوف مع الأحوال بغياب نور الراء وغياب الامتثال بغياب الألف...
هذه ظلمات مركبة، بعضها فوق بعض، ولها ترتيب محكم، ولها آثار تدميرية على الإيمان وعلى الإنسان وعلى الدوائر المحيطة (يجب جمعها وإحصاء ظلماتها وتقييم أضرارها، فإن القرآن اعتبرها آلهة من دون الله.. فافهم)
وهناك مواضع أخرى في كتاب الله، لها مثل الدلالات في إخلاص التوحيد وتوجيه المريد، بقيت في رفوف التهميش ودواليب الكتمان، وأبرزت بدائل لها في زيارة القبور والتوسل والتصوف... ووصف أهلها بالفسق والخروج من الملة.. وظلمات الكفر الحقيقية مجدرة في مجتمعاتنا وسارية في سلوكنا ونحن عنها غائبون (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ)..
ولنختم بإعراب حرف الخاء "خ" من كلمة ختم، فلها "ذوق الأنوار"، والذوق محل تحليله العقل (فالحرف عقلي بامتياز).. والأنوار منها ما هو إحساسي (قلبي) كما أن منها ما هو سمعي وبصري... (حواسي) ومنها ما هو على مستوى الجسد.. فهو عقلي مرتبط بكل أعضاء الجسد..
- القلب الأعمى :
العمى هو فقد حاسة النظر ومحله العيون، وعكسه الإبصار.. ولعل القارئ يحسبها كناية، والواقع أنها حقيقة والوصف القرآني دقيق، وهذا توضيح لذلك:
كلها يعرف أن الأذن للسمع، والسمع متوقف على إرسال (مصدر الصوت) واستقبال (وهو الأذن).. ولكن هذا يكون فقط لنوع من الذبذبات وصف منها، ويجب أن تكون الذبذبات بمواصفات معينة حتى تستقبلها الأذن، والدليل عليه أن ذبذبات الهواتف وغيرها كثير تمر على الآذان فلا تلتقطها، ويجب أن تحول وتغير إلى الذبذبات الناضجة حتى تسمعها أذن الإنسان من باب السمع المعتاد.. وفي المقابل أن ذبذبات أخرى تلقى في عقل الفرد (وهي الأفكار والإيحاءات بمختلف أوجهها، فيقبل منها أو يرفض، تماما كما يقبل من رضيه بسمعه أو يرفضه) ...
كذلك الأمر في النظر الذي يقرأ ذبذبات معينة بالعين المجردة والإبصار الذي يحلل بإحساسات معمقة قال ربنا: "وَإِن تَدعُوهُم إِلَى ٱلهُدَىٰ لَا يَسمَعُواْ، وَتَرَىٰهُم يَنظُرُونَ إِلَيكَ وَهُم لَا يُبصِرُونَ" فالنظر غير الإبصار (الذي هو من التبصر والأناة والفراسة والتطلب...)، فعمى النظر يعوض بحواس أخرى كالسمع أو الحس أو التدليل... أما عمى البصيرة فلا يعوض قال ربنا: " فَإِنَّهَا لَا تَعمَى ٱلأَبصَٰرُ وَلَٰكِن تَعمَى ٱلقُلُوبُ ٱلَّتِي فِي ٱلصُّدُورِ"..
ومن عجيب ما سبق في الآية (ويجب أن تشد إليه الرحال وتحط فيه الأحمال قال ربنا: " أَفَلَم يَسِيرُواْ فِي ٱلأَرضِ فَتَكُونَ لَهُم قُلُوب يَعقِلُونَ بِهَا أَو ءَاذَان يَسمَعُونَ بِهَا..." فكيف يكون التعقل بالقلوب؟ والذي عهدناه مع المذاهب المادية أن الذي لا يقبله العقل لا يعتبر (أو هكذا يقولون، وعليه يعملون) وربنا يقول أن حقيقة التعقل تكون بالقلب (وقد سبقت الإشارة إلى ذلك)، وفي آية أخرى "التفقه" وربنا يقول: "وَلَقَد ذَرَأنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرا مِّنَ ٱلجِنِّ وَٱلإِنسِ لَهُم قُلُوب لَّا يَفقَهُونَ بِهَا وَلَهُم أَعيُن لَّا يُبصِرُونَ بِهَا وَلَهُم ءَاذَان لَّا يَسمَعُونَ بِهَا أُوْلَٰئِكَ كَٱلأَنعَٰمِ بَل هُم أَضَلُّ أُوْلَٰئِكَ هُمُ ٱلغَٰفِلُونَ" وفي الآية العظيمة تشبيه عجيب في الذين يعوزهم تفقه القلوب.. أولا: يغيب عنهم إبصار العيون وسماع الآذان، والمعضلة الكبرى أنهم يصبحون كالأنعام (فكيف تغيب مميزان الإنسان فيما خصه الله به وهو القائل سبحانه: " وَلَقَد كَرَّمنَا بَنِي ءَادَمَ وَحَمَلنَٰهُم فِي ٱلبَرِّ وَٱلبَحرِ وَرَزَقنَٰهُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَفَضَّلنَٰهُم عَلَىٰ كَثِير مِّمَّن خَلَقنَا تَفضِيلا") فلعل التفقه القلبي المتجانس مع الإبصار والسمع من مميزات ما فضل الله بني آدم على كثير مما خلق (بل ومن فقد مقومات التفقه القلبي مع ملحقاته يكون أضل من الأنعام.."فافهم")...
أما بالنسبة لحرفنا في "عمى القلوب" وهو العين وهو كما يلي:
العين لها من الأنوار العفو: وهو من الصفح والحلم والتسامح والتساهل والتغاض والتغمد... وظلمته: الأخذ والعقوبة والتشدد وهي من التنابذ والتشاحن...
فالعفو في السلوك والمعاملات هو ترك عقوبة المذنب، والصفح أرقى منه درجة وهو ترك لومه، وقيل هو إزالة أثر ذلك من النفس، ولذلك قال ربنا: "فَٱعفُواْ وَٱصفَحُواْ حَتَّىٰ يَأتِيَ ٱللَّهُ بِأَمرِهِ" فالعفو من أسماء الله التي يكون التسلك فيها بجنسها قال ربنا: "وَليَعفُواْ وَليَصفَحُواْ أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغفِرَ ٱللَّهُ لَكُم".. والعفو سلاح نوراني ذو حدين، فبقدر ما يحرر غريمه من العقوبة المستحقة بقدر ما يحرر قلبه من ظلمة الأخذ والتشدد والتنابذ (فافهم)
يروى أن أحد السلف كان له عبد مملوك ففعل شيئا يستحق عليه عقوبة، ولما حضر سيده وأخبره الخبر رأى أثر الغضب عليه، فقال له العبد: "وَٱلكَٰظِمِينَ ٱلغَيظَ" قال السيد (وكان من أهل الذكرى) كظمت غيظي!.. فقال العبد: "وَٱلعَافِينَ عَنِ ٱلنَّاسِ" قال السيد: عفوت عنك.. قال العبد: "وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلمُحسِنِينَ" قال السيد: أنت حر لوجه الله!!!
أما ظلمة العفو.. وهي العقوبة (وما يقوم مقامها) فإن قورنت بظلمات ما بعدها في كلمة "تعمى" وهي ظلمة الميم (الضرر بالمخلوقين) والياء (وهي عدم الخوف من الله) فإنها مسببة لعمى القلوب.. نسأل الله السلامة..
فالعين حرف قلبي، منفتح على العقل ومنشرح على باقي الجسد، ولذلك تجد الذي يعفو ويصفح في راحة نفسية وتوازن، والمتمسك بالعقوبة (وإن كان على حق) تجده في عكس ما ذكر...
- ران القلوب :
الران والرين هو ما غطى القلب وغلبه وخامره حتى لم تعد مهام القلب معطلة في معرفة الخير والشر.. والران بمثابة الغطاء الذي يغطي القلب فيحجبه عن التعقل والتفقه والمعرفة.. فالرين يكنى على ذلك الصدأ الذي يعلو ويهيمن على الشيء الجليل.. ولا أجل من القلب ولا ران يكون عليه إلا بالمعصي والذنوب.. وقد ورد في حديث الرسول الكريم ﷺ: إنَّ المؤمنَ إذا أذنب ذنبًا كانت نُكتةٌ سوداءُ في قلبِه، فإن تاب ونزع واستغفر صقَل منها، وإن زاد زادت حتَّى يُغلَّفَ بها قلبُه، فذلك الرَّانُ الَّذي ذكر اللهُ في كتابِه: " كَلَّا بَل رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُواْ يَكسِبُونَ"..
وللتوضيح أكثر: الران هو حجاب كثيف ظلماني يغلق مفاتح القلب على الروح، وكما سبق بيانه أن الروح في مقابلة الحق على الدوام، والقلب هو العضو الوحيد المؤهل إلى استقبال إشاراتها أو انعكاس أنوارها، فبقدر جلاء ظلمة القلب وصفاء طويته، وحفظه من الرعونات الحسية والكدورات المعنوية، تفتح مسامه وتؤهل مستقبلاته للتلقي من الروح التي تتلقى من بحار الأنس ومن حضرة القدس... فحرر قلبك من رانه تكن به قريبا وأرح نفسك مما يعيقها تكن للحق مجيبا..
أما مسببات ران القلوب ورأس العيوب هو ما ذكرته الآية الشريفة قال ربنا: "وَمَا يُكَذِّبُ بِهِۦٓ إِلَّا كُلُّ مُعتَدٍ أَثِيمٍ إِذَا تُتلَىٰ عَلَيهِ ءَايَٰتُنَا قَالَ أَسَٰطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ كَلَّا بَل رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُواْ يَكسِبُونَ".. فمستهله اقراف الآثام المؤدية إلى فتح أبواب الاعتداء "كُلُّ مُعتَدٍ أَثِيمٍ" الموصلة إلى التشكيك في الحق والتكذيب بما نزل من الحق "إِذَا تُتلَىٰ عَلَيهِ ءَايَٰتُنَا قَالَ أَسَٰطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ".. فهذا الران وهذا سبيله وهكذا تحرم به القلوب عن رحمات علام الغيوب"وَزَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيطَٰنُ أَعمَٰلَهُم فَصَدَّهُم عَنِ ٱلسَّبِيلِ فَهُم لَا يَهتَدُونَ"..
أما حرفنا الترتيبي فهو حرف "الراء: وله من الأنوار حسن التجاوز".. وحسن التجاوز موقوف على قرارات عقلية مبنية على استعمال العقل بكل وظائفه.. فالراء حرف عقلي بامتياز..
وتبقى أمراض أخرى للقلوب وأعراض مدمرة لسلامته وصلاحه، يجب إحصاؤها والبحث في مسبباتها وتأثيرها على سلامة القلب نفسه، وكذلك البحث في مؤثراتها على أعضاء الجسد، وذلك كالقلوب التي عليها أكنة قال ربنا: "وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّة مِّمَّا تَدعُونَا إِلَيهِ وَفِي ءَاذَانِنَا وَقر وَمِن بَينِنَا وَبَينِكَ حِجَاب" والقلوب المختلفة أو المشتتة من قول ربنا: "تَحسَبُهُم جَمِيعا وَقُلُوبُهُم شَتَّىٰ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُم قَوم لَّا يَعقِلُونَ" والقلوب المشمئزة قال ربنا: " وَإِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَحدَهُ ٱشمَأَزَّت قُلُوبُ ٱلَّذِينَ لَا يُؤمِنُونَ بِٱلأخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ ٱلَّذِينَ مِن دُونِهِۦٓ إِذَا هُم يَستَبشِرُونَ"...
فالبحث في مستهله وفي الغوص جواهر ودرر، وقلوب العباد هبة من رب العباد مشروط صونها ومطلوب إصلاحها، فلا صلاح ولا فلاح إلا بصونها وصلاحها (وعلى الله قصد السبيل.. وفي ذلك فليتنافس المتنافسون)..
ختاما :
أخيرا وليس آخرا (وبسط البحث يلزمه تخصص وطاقات وهمم) تجدر الإشارة إلى جرد ابتدائي لمهام الحروف وانتمائها سلوكيا، وأثر انوارها على حسن أداء الأعضاء وتأثير ظلماتها على وظائف الأعضاء (وربما السبب في الأمراض والأعراض...)، وقد سبق ترتيب الحروف حسب الوقع النوراني وتكراره في كتاب الله تعالى، وهذا بسط نبدأ به البحث (وللعلم فإن الأمر موكول تحقيق بسطه للمتخصصين في وظائف الأعضاء والتفرسين في استنباط عبارات وإشارات آي الله العظيم في كتابه المبين) وهو كما يلي:
هذا بإيجاز وتقريب أول جرد للحروف ونورانيتها وتأثيرها إيجابا وسلبا على مختلف الأعضاء ووظائفها (يجب الاجتهاد في تنقيحها بالشواهد (وهو ما ورد في كتاب الله من شواهد النور أو الظلمة) والبيانات (وهو ما تبينه الأنوار من خلال الذكر) ونستعين على ذلك بالأدلة الشرعية المعروفة (فما اجتهد فيه المجتهدون في الفقه والأصول له مقاصد في بناء الشخصية الإيمانية وتكوين البنية الشكلية ظاهرة وباطنة قصد تحقيق التوازنات بين الكائنات والمكونات بتوازن الإنسان...)
وهذا نموذج في نورانية الحروف نفتحه، ومنهج في التوازن السلوكي بالبحث في صلاح النفوس نطرق بابه ونقتحم عبابه، وعلى الله قصد السبيل وهذا قياسه:
مثال أول :
ذكرنا فيما سبق من البحث نيفا من أنوار الألف وكذلك اللام، والآن نطرق باب الحرف الموالي وهو "حرف النون" وله من الأنوار: "الفرح بالله" (نسوق هذه الأمثلة لنعتاد نهج البحث الربانية التي يجب اعتمادها "ولابد أن تكون مبدأ كل بحث ومنهج كل تحقيق" وهكذا يجب أن نبدأ وبالله التوفيق:
- النون : لها الفرح بالله..
الفرح في اللغة: هو السرور والابتهاج والجذل والحبور... وعكسه: الحزن والغم والشجن... والفرح على وجهين: فرح القلوب وفرح النفوس.. وكذلك عكسه وضده ونقيضه..
فرح النفوس: فهو الفرح بكل ما فيه متعة، ومنه مصلحة... ودوام الفرحة معه تكون على مدة دوام المتعة به (والناس فيه على مراتب): فرح بالشيء لمتعة فيه وتسلية به.. فذلك فرح الأطفال وإن كان رواده نساء ورجال (وقد فتحت على الأنام أبوابه وشرعت في العوالم أسبابه) والتمست له الرخص، منهم من سماها الترويح على النفوس ومنهم من سماها إدخال السرور على المؤمن وعلى رأس هؤلاء من يستثمرها بحنكة ويمتهنها بدهاء، لتطبيع النفس على اللعب والعقل على العبث، وسرعان ما تنقلب إلى أضدادها وتتحول إلى عكسها بوجود علة فيها أو الملل منها وطلب ما فوقها مع عدم القدرة عليه..
وتختلف أفراح النفوس باختلاف أنواعها وأجناسها وجديتها ومنافعها وسفائفها، فلكل نهايته وحدّه وأفوله وضده، والنفوس فيه متقلبة وبه منقلبة.. ولا يبقى للجد إلا ما كان فيه جِد، ودوام الحال محال.. فلذ بالجد واجعل منه حالا، يرقى ذوقك ويصوب قصدك ويفرح قلبك...
أما فرح القلوب: فله أسس منها يستمد وشروط عليها تعتمد.. أما أسسه: فصلاح القلوب (حتى تصنف الفرح وتلحقه بأصله) ونقاؤها (حتى تتواصل مع الروح لأنه منها استمدادها).. وتوجيه الفرح وتصنيفه بجعله فيما يدوم وليس فيما يزول، حتى يصل برقيه وانتقائه إلى من كان منه العطاء، فترى في العطية المعطي وفي الهبة الواهب، فتتلاشى آثار العطية برؤية عاطيها والهبة بمعرفة واهبها، فيتواصل الأنس بحضرة القدس، ويسعد الوسيط "القلب" سعادة لا شقاء بعدها ويفرح بالله فرحا لا حزن بعده ولا شقاء فيه ولا ترح معه " قُلِ ٱللَّهُ ثُمَّ ذَرهُم فِي خَوضِهِم يَلعَبُونَ"..
أما آثار النون فممتعة ونافعة إذا وافقت أنوارها، ومتعبة وضارة إذا كانت ضحية أكدارها وهيمنت عليها ظلماتها.. وذلك ما تبينه آيات الله المبينة لأسرار الفرح بالله قال ربنا:"يَأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ" وقد جاء الفرح بالله تتقدمه سلوك رفيعة وتختمه أحوال منيعة.. أما ما تتقدمه فكما جاءت في الآية: ف" جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ" و " وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ" و " وَهُدًى وَرَحْمَةٌ".. وأما الأحوال التي تختمه ف" خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ"...
بتشخيص أدق :
السلوك الذي يسبق الفرح بالله ويمهد له هو :
-التوجه الأول: الموعظة والإرشاد والتوجيه بدون طرق باب المتخصصين والبحث في رفوف الخازنين، والمعلومة الواعظة تكون بكل تأكيد صحيحة وسليمة ونافعة...
-الهبة الثانية: "الشفاء لما في الصدور" وهو إنهاء كل شك وريب فيترتب على ذلك الثقة والاستقرار والتوازن النفسي، وكل ما يترتب على ذلك من قوة في الأداء وإعطاء كل الطاقة في زيادة الفعل إتقانا والحسن إحسانا...
-المرقى الثالث: " وَهُدًى وَرَحْمَةٌ " وطلب الهداية في الإقدام مطلوبة والتوجه مرغوب ولكنه هنا مضمون "هدى" والبركة والنفع للفرد ومن حوله كذلك تكون عنوان ما اهتدي به له وهي "رحمة"... (فعد ما يترتب من سلوك في التوازن والاستقرار النفسي، وما ينفع الجسد والعقل والقلب وباقي وظائف الأعضاء) فافهم واختبر..
أما عندما يستقر الفرح بالله ويتمكن القلب من حيازته بفضل الله.. فهو يغني عن كل شيء تعرفه ولا تعرفه وذلك ذكره ربنا في كلمة واحدة جامعة مانعة " خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ" فإذا حصل الفرح بالله تحصلت الكفاية عن كل ما يمكن أن يجمع باجتهاد الجامعين والمجتهدين بكل الحيل وشتى الوسائل...فالفرح بالله يكون معه الغنى بالله عن كل ما سواه (فافهم)
-أما عكس نور النون :
وهو الفرح بغير الله، او كما سبقت تسميته بفرح النفوس، وهو دركات، أقلها ضررا هو الفرح بالسفليات (ويسمي أهل التخصص السفليات هو كل ما يتعلق بالدنيويات) وأعمقها كدرا وأكثرها ضررا هو الفرح بالمحرمات وتلك درجة السحرة والشياطين.. أما أقلها ضررا فهي على مستويات (يجب ان تحصى لاختلاف أضرارها وتعدد امراضها وأعراضها) هذه أمثلة منها:
-مثال أول: قال ربنا: "لَا تَحسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَفرَحُونَ بِمَا أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحمَدُواْ بِمَا لَم يَفعَلُواْ فَلَا تَحسَبَنَّهُم بِمَفَازَة مِّنَ ٱلعَذَابِ وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيم".. و هذه من ظلمات الفرح (وهو الفرح بالنفس) وعنوانه: "الفرح بما أتوا" وهو كل ما يمكن إتيانه من أمور الدنيا (والمرشح أن تكون الأمور المباحة من أمتعة الدنيا وملذاتها)..
فأول ظلمة تحلقهم: "يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا" والحقيقة أنه كان منهم السبب ومن الله التوفيق (أما كل العناصر والمكونات فالطبيعة والقدرة والعناية الربانية أصلها ومنبعها) تماما كما قال قارون: " قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُۥ عَلَىٰ عِلمٍ عِندِي" وهذا معنى يحبون ان يحمدوا بما لم يفعلوا، وهذه الظلمة تورث: الكبر والعلو والعظمة وكلما يأتي بعدها من آفات خلقية وانحطاط سلوكي..
الظلمة الموالية: فلا بد أن هذا السلوك المشين سوف يفقدهم كل تعقل وتوازن وهذا سيصدمهم مع كل شيء وأي أحد وذلك قول ربنا: " فَلَا تَحسَبَنَّهُم بِمَفَازَة مِّنَ ٱلعَذَابِ"..
الجزاء الختامي: " وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيم" فكل اصطدام عذاب وكل عذاب مؤلم... (فافهم التسلسل الظلماني).
-مثال ثاني: قال ربنا: " فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِۦ فَتَحنَا عَلَيهِم أَبوَٰبَ كُلِّ شَيءٍ حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذنَٰهُم بَغتَة فَإِذَا هُم مُّبلِسُونَ" وهذا مثال آخر تذكره الآية الشريفة في الذين يفرحون بما أوتوا، فتسبقه ظلمات "وهو نسيان ما سبق به التذكير من العزيز القدير" (فلا يقل أحد أنه لم يُذكّر لأن ربنا من عدله لا يعاقب حتى ينذر ولا يأخذ بالذنب حتى يحذر وهو القائل سبحانه: " وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبعَثَ رَسُولا")، وبعد السقوط في الظلمة الأولى يكون الاستدراج " فَتَحنَا عَلَيهِم أَبوَٰبَ كُلِّ شَيءٍ" فيظن المستدرج أنه في خير مستحق ونعيم دائم.. فيأتي الأخذ المباغت.. فيدع كل شيء وراءه ظهريا " أَخَذنَٰهُم بَغتَة" ويستقبل كل ما لم يكن يتوقعه " فَإِذَا هُم مُّبلِسُونَ"... هذه قراءة على السريع، ولمن أراد أن يحلل عناصرها السلوكية في كل فعل ونعت فإنه يجد البلسم الشافي في التوجه المحدد في كل فعل وقصد وحال، وهذه خلاصة المثالين:
0 Commentaire(s)