القلب
القلب هو عضو عضلي (كما لا يخفى على أحد) يقع في القفص الصدري خلف عظمة القص، ويميل قليلاً إلى اليسار عند معظم الناس، يبلغ حجمه أكبر بقليل من قبضة الشخص.. له جدار سميك يقسم القلب إلى قسمين، يمين ويسار، يحتوي كل جزء على تجاويف، تسمى: أذين وبطين، وهما متصلان بواسطة صمام...
يعمل القلب كمضخة بفضل انقباضاته المنتظمة، يقوم بضخ الدم الطلوب إلى جميع أنحاء الجسم، (بمعدل حوالي 8000 لتر من الدم في اليوم الواحد) ومن مهامه كذلك أنه يضمن إمداد الجسم بأكمله بالأكسجين...
للقلب صمامات أربع، تقع بين الأذينين والبطينين من جهة، وعند مخرج البطينين من جهة أخرى، من شأنها عند إغلاقها منع ارتداد الدم في الاتجاه الخاطئ.. هذا الإغلاق الطبيعي في الصمامات هو الذي يحدث هذا الصوت المألوف لنبضات القلب..
يدخل الدم (غير المؤكسج) القادم من أجزاء الجسم إلى الأذين الأيمن الذي ينقبض ويخرج الدم إلى البطين الأيمن فيتم إغلاق الصمام الموجود بين هاتين الجزأين.. ثم ينقبض البطين الأيمن ويدفع الدم إلى الجذع الرئوي، فيُغلق الصمام الموجود عند قاعدة الجذع الرئوي.. هكذا يتم إرسال الدم إلى الرئتين حيث يتم شحنه بالأكسجين، فيتدفق من جديد غني بالمواد وثري بالأكسجين..
على هذه العضلة (القلب) أن تنبض أزيد من 100.000 مرة في اليوم، ويتراوح معدل ضربات القلب الطبيعي بين 60 و100 مرة في الدقيقة لضمان حصول كل أعضاء الجسد على الأوكسجين الكافي بطريقة سليمة وبشكل مستمر.. وللقلب أربعة تجاويف: التجاويف العلوية تسمى الأذينين الصغيرين، والتجويف السفلي الذي ويسمى البطينين، وهو أكبر من الأذينين.. في الجزء العلوي من الأذين الأيمن توجد العقدة الجيبية الأذينية التي تتحكم في آلية تنظيم ضربات القلب.. وهو الذي يقرر معدل ضربات القلب المتكيف مع النشاط (الراحة أو النشاط البدني).. تمنع صمامات القلب تدفق الدم بين الأذينين والبطينين، بحيث تتم الدورة الدموية دائمًا في نفس الاتجاه، ومثل جميع الأعضاء الأخرى، يحتاج القلب إلى إمداد بالأكسجين والمواد المغذية ليعمل.. ولهذا يتم ترويتها عن طريق الشرايين التاجية والشرايين المنعطفة...
خلال كل نبضة يتقلص القلب ويرتخي، في البداية يتقلص الاذينان ويدفعان الدم الى البطينين اللذين يرسلان الدم الى الشريان الابهر والى الشريان الرئوي.. هذا التقلص الذي يحصل بين نبضتين وتبلغ مدة كل حوالي 0،4 ثانية، فيه تحصل راحة للقلب، وتسمى لحظة المد والانبساط (ولنا فيها كلام يأتي خلال البحث)
أعمال القلب ينظمها الجهاز العصبي والغدد الصماء، فالجهاز العصبي يتصرف بحكمة في زيادة عدد النبضات أو قوتها، ونفس الشيْ تقوم به الغدد الصماء عندما نفرح مثلا أو نحزن..
وللعلم فإن خلايا القلب لا تتجدد، وهذا يعني أن النسيج العضلي للقلب غير قابل للتجدد بعد تلف أي جزء منه، وهذا مدعاة على ضرورة المحافظة على القلب والاعتناء به، من الجهة المادية: يجب تغذيته بالمواد الضرورية وعلى الخصوص المحتوية على عنصري المغنيسيوم والبوتاسيوم الضروريين للقلب والاوعية الدموية... (وسوف نتكلم على السلوك المقوم للقلب فيما يأتي)
أود أن أختم بمعلومة يحتاجها الناس للاطمئنان على قياس الضغط الدموي وهي كما يلي:
عنما يقاس الضغط نحصل على رقمين مثلا 120 و 80، هذان الرقمان يعبران على الحدود بين أكبر وأصغر مقدار لضغط الدم خلال كل نبضة للقلب، الرقم الاول (120) هو الحد الاعلى للضغط، والرقم الثاني (80) هو الحد الاسفل للضغط، يعني عند انبساط عضلة القلب.. وهذا جدول يبين ضغط الدم الطبيعي لمختلف الاعمار للرجال والنساء..
هذا وغيره من المعلومات بعضه يتعلمه الشباب في المدارس الثانوية.. وعلى قدر تخصص الطالب في كليات الطب يزداد اطلاعه على مهام القلب وأعراضه ومشاكله... وعلى قدر مشاكل كل منا له أو لمحيطه في أمراض القلب والشرايين يتعلم من خلال كلام الأطباء أو قراءة الأدب الطبي أسماء ومسميات لهذه الأمراض والأعراض كارتفاع ضغط الدم (L'hypertension) أو عدم انتظام ضربات القلب (L'arythmie cardiaque) أو تسارع دقات القلب ( tachycardie) أو احتشاء عضلة القلب (infarctus du myocarde) أو السكتة القلبية (L'insuffisance cardiaque)...
هذا وغيره حصّل فيه الجسد الطبي وأطقمه والآليات التي يتعاملون بها تشخيصا ومعالجة وجراحة وقد وصلت إلى ما لا يخفى على أحد وتبقى اجتهاداتهم في تقدم دائم واكتشافات متوالية...
أما الذي نريد أن نتناوله في تخصصنا هو مختلف أوجه القلب في التأثير والتأثر حسب السلوك وأحوالها ومدى تعامل القلب معها مع مختلف مكوناته... وقد ظهر في العشريات الأخيرة اهتمام بالقلب من حيث ذكائه وإحساسه (وإن كانت الأبحاث فيه لا زالت في بداياتها) فإنه لا بد أن تأخذ مسار البحث الصحيح إن اعتمد فيها على المأثور وكانت الأبحاث حليفة لها بعيدا عن معوقات البحث العلمي بالتحيز إلى الشركات التجارية أو الجهات السياسية... هذا هدفنا وبالله التوفيق..
القلب في اللغة والاصطلاح :
يقال قلَبَ في اللغة إذا حوّل الشيء عن وجهه، وقلب الشيء إذا صرفه من وجه إلى آخر كقلب الثوب أو قلب الأرض أو قلب الإنسان إذا صرفه عن منهجه وطريقته، قال ربنا " وَإِلَيهِ تُقلَبُونَ "والانقلاب يعني الانصراف قال ربنا "ٱنقَلَبتُم عَلَى أَعقَٰبِكُم وَمَن يَنقَلِب عَلَىٰ عَقِبَيهِ فَلَن يَضُرَّ ٱللَّهَ شَيا" ومنه أخذ معنى الانقلاب في السياسة ...
وسمي القلب لتقلبه ولذلك كان الرسول الكريم ﷺ يقول:" اللهُمَّ مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ صَرِّفْ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ" وكان ﷺ يقول: "إِنَّ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ كُلَّهَا بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ، كَقَلْبٍ وَاحِدٍ، يُصَرِّفُهُ حَيْثُ يَشَاءُ " وربنا سبحانه يقول: " وَٱعلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ يَحُولُ بَينَ ٱلمَرءِ وَقَلبِهِۦ وَأَنَّهُۥٓ إِلَيهِ تُحشَرُونَ "...
وأما في الاصطلاح فإنه يأتي بمعانيه اللغوية، فكما يطلق على المضغة المعروفة التي هي القلب، يطلق كذلك على ما يحصل من هذه المضغة من إدراكات وتعلقات وتعقلات... وبهذا يعرف: أنه هذه اللطيفة الربانية التي تشملها أو تنجم من هذه المضغة من إحساسات ومدركات وعلوم وقناعات وتوجهات... ولذلك قال فيها الرسول الكريم ﷺ: "... ألا وإنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً، إذا صَلَحَتْ، صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وإذا فَسَدَتْ، فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، ألا وهي القَلْبُ"...
ويوجد حشو لغوي بين القلب والفؤاد، فمنهم من يقول أن القلب هو الفؤاد والفؤاد هو القلب، وذهب البعض إلى القول أن الفؤاد هو العقل أو مناطق فيه (على حد قولهم) كما أشارت بعض الأبحاث العلمية... وهناك معاني دقيقة في كتاب الله يجب العمل عليها حتى يمكن لأهل التخصص التحقق منها ووضعها محط التجارب حتى تعم الفائدة، فما خلق الله شيئا إلا لحكمة بالغة وما دلنا عليه في ذكرها إلا للأخذ بأسبابها فقد صدق ربنا:" مَّا فَرَّطنَا فِي ٱلكِتَٰبِ مِن شَيء"
القلب العاقل :
ذهب كثير من المفسرين والأدباء والنحاة إلى تأويل القلب بالعقل في كتاب الله تعالى كقوله تعالى: " إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ" أو قوله تعالى: " لَهُم قُلُوب لا يَعقِلُونَ بِهَا" وقوله تعالى: "حْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى"... فأولوا القلب بالعقل رغم صراحة الكلمة في كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل.. وربما يتأبط كل قائل عذره في أوجه المجاز البلاغي وهذا لا يجوز..
وتأبى الحقائق الربانية إلا أن تميط النقاب بكل أدب للعلم المادي لتكشف له عن بعض مكوناتها، ليعرف أن للقلب ذاكرة وذكاء، ولقد زج بنا طويلا في الاعتقاد أن الدماغ هو الذي يهيمن على بيولوجيتنا، فإذا بالعلم يتحقق أن القلب عضو ذاتي التنظيم.. وهذا يعني أن نبضات القلب تنشأ في القلب وليس في الدماغ.. وهذا يدل على أن القلب قادر على التواصل مع الجهاز العصبي المركزي، بل وهناك عامل آخر يوضح أن القلب فريد من نوعه: فهو يحتوي على أعصاب مرتبطة بكلا نظامي الجهاز العصبي اللاإرادي "ANS" الجهاز العصبي الودي والباراسمبثاوي (systèmes nerveux sympathique et parasympathique) وبالتالي فإن معدل ضربات القلب يتأثر بالعواطف التي نشعر بها (فتذكر هذا فسنرجع له لاحقا في بحثنا)..
في عام 1991، أثبت أحد الباحثين أن القلب له نشاط عقلي خاص به.. فهو يحتوي على جهاز عصبي يتكون من 40 ألف خلية عصبية تعمل بشكل مستقل عن الدماغ، يرتبط القلب والدماغ بمسارات تنازلية (صادرة) وصاعدة بنسبة 90٪ من الألياف العصبية (واردة).. ثم اكتشف بعد ذلك أن هذه المسارات الصاعدة من القلب ترسل باستمرار إشارات ومعلومات تتفاعل وتعدل نشاط المراكز المعرفية والعاطفية العليا في الدماغ..
تمر هذه الإشارات من القلب إلى الدماغ عبر العصب السمبتاوي وتستمر مباشرة إلى المهاد (الذي يزامن الأنشطة القشرية مثل التفكير والإدراك وفهم اللغة)، ثم إلى الفص الجبهي (المسؤول عن الوظائف الحركية وحل المشكلات)، ثم إلى مركز البقاء في الدماغ، اللوزة الدماغية (المرتبطة بالذاكرة العاطفية)...
على العموم، هذا وغيره كثير من المعلومات أصبحت في متناول المتصفح لمحركات البحث المختلفة وفي المقالات العلمية المتخصصة أدق من ذلك... إلا أن التعامل مع هذا الكم من المعلومات يبقى كالعذراء في خدرها (كما يقال) وتهافت المتهافتين ترك الساحة العلمية والعاملين عليها كاللئام على موائد الأيتام، وأصبحوا بمعلوماتهم كابن اللبون لا ظهر فيركب ولا ضرع فيحلب... ومن رأس التهافت برزت فكرة: الذكاء الإحساسي..
الذكاء الإحساسي (intelligence émotionnelle) :
عبر المعبرون عليه بكل بساطة، أن الذكاء العاطفي هو نوع محدد من الذكاء يسمح لك بتوجيه القرارات والأفكار والسلوكيات، بناءً على إدارة عواطفك الشخصية.. وتخصص فيه المتخصصون وقالوا: أنه يساعد على التأثير المباشر أو السيطرة على عواطف الآخرين.. ولذلك فهو ارتباط بين الجانب العلائقي والعاطفي لتطور الفرد.. وفي مقابل الذكاء العقلاني الذي يتكون من غياب مراعاة العواطف والتركيز على التفكير المنطقي، يقدم الذكاء العاطفي العديد من القدرات التنموية من أجل مواجهة جميع المواقف تقريبًا... وتهافتوا على جعل كفاءات لهذا النوع من الذكاء وخصائص (والتي لا تستحق ذكرا في موضوعنا لتفاهتها)..
باختصار شديد توظف هذا النوع من الذكاء في الفكر التجاري وكيف العبث بإحساسات الناس (وليس العمل على الذكاء الحقيقي للقلب والقناعات الإحساسية التي من شأنها أن تزود العقل بحقائق الأمور التي ليست في متناوله...)
وظائف القلب المغفلة في الساحة العلمية :
من يرى كل هذه الاكتشافات العلمية على خلايا القلب العاقلة أو حريته في إدارة كثير من أنشطته وكذلك مدى ارتباطه بالعقل والذاكرة (ونقول فقط ما تم الوصول إليه الآن كافي أن ينظر إلى القلب بعين تخصصية) وهذا يضع الكتاب والباحثين في قفص الاتهام وطرح السؤال التالي: إلى متى يبقى هؤلاء "العابثين" يحرفون التجارب العلمية عن مسارها النفعي، بعد ما غييبوا النصوص الحقيقية على حساب تزكية العقل المادي الماكر؟؟
أو سؤال بصيغة أخرى: إلى متى يبقى علماؤنا أو متخصصونا في غياب عن النصوص القرآنية والسنة النبوية، وهم منجرون نحو ما ينسجه حياك الأفكار المادية في مستنقعات ظواهر الأفكار ومظاهر معانيها؟؟؟
لو لم يكن في كتاب الله إلا هذه الآية: "قُل مَن كَانَ عَدُوّا لِّـجِبرِيلَ فَإِنَّهُۥ نَزَّلَهُۥ عَلَىٰ قَلبِكَ بِإِذنِ ٱللَّهِ" لأفرز لنا متخصصين يبحثون في هذا القلب الذي نزل فيه القرآن (أو نزل عليه جبريل حامل القرآن على احتمال البعض) ولكنه القرآن الذي لا يمكن أن يحمله إلا قلب رسول الله الكريم ﷺ، فكيف يكون هذا القلب الذي يحمل هذا القرآن وربنا سبحانه يقول: "لَو أَنزَلنَا هَٰذَا
ٱلقُرءَانَ عَلَىٰ جَبَل لَّرَأَيتَهُۥ خَٰشِعا مُّتَصَدِّعا مِّن خَشيَةِ ٱللَّهِ" فهذا القرآن الذي لا تتحمله الجبال تحمله قلب رسول الكبير المتعال، وقد ورد في الآثار: ما وسعتني سماواتي ولا أرضي ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن..
يقول ربنا: "قُل إِن كُنتُم تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِي يُحبِبكُمُ ٱللَّهُ وَيَغفِر لَكُم ذُنُوبَكُم" ولما كان حب الله (الذي محله القلب) مقرون باتباع رسول الله (ومحلها الجوارح) كان للقلب شأن عظيم في هذا التكوين الخلقي (الإنسان) ولذلك قول الرسول الكريم ﷺ: "... ألا وإنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً، إذا صَلَحَتْ، صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وإذا فَسَدَتْ، فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، ألا وهي القَلْبُ" فيجب الانكباب على هذه المضغة بما يكفي لعل الله يبين لنا من بعض أسرارها ويكشف لنا عن بعض خباياها وقد وردت في كتاب الله على مستوى الجدر 169 مرة، فيجب ما يجب لكي نفتح بابا للعلم بهذه المضغة العجيبة وهذا الصنع الرباني...
بعض أقوال العارفين عن القلب :
قال الإمام علي بن أبي طالب :
"لقد علق بنياط هذا الإنسان بضعة هي أعجب ما فيه وذلك القلب: له موارد من الحكمة وأضداد من خلافها، فإن سنح له الرجاء أذله الطمع، وإن هاج به الطمع أهلكه الحرص، وإن ملكه اليأس قتله الأسف، وإن عرض له الغضب اشتد به الغيض، وإن أسعده الرضا نسي التحفظ، وإن ناله الخوف شغله الحذر، وإن اتسع له الأمن استلبته العرة (الغفلة)، وإن أفاده مالاً أطغاه الغنى، وإن أصابته مصيبة فضحه الجزع، وإن عضته الفاقة شغله البلاء، وإن جهده الجوع قعد به الضعف، وإن أفرط به الشبع كظته (آلمته) البطنة"... (وهذا تقييم يجب أن يكتب بماء الذهب).. وهذا يدل على وعي الصحابة بحالات القلوب (وهذا ما سنبينه لاحقا بحول الله تعالى)"
ويقول التابعي مسروق بن الأجدع :
صحبت أصحاب رسول الله ﷺ فوجدتهم كإِخاذات (يقال منظر أخاذ يعني فتان وساحر وأخاذ)، لأن قلوبهم كانت واعية فصارت أوعية للعلوم بما رزقت من صفاء الفهوم"..
ويقول الإمام جعفر الصادق :
"إعراب القلوب على أربع أنواع : رفع وفتح وخفض ووقف.. فرفع القلب: في ذكر الله،وفتح القلب: في الرضا عن الله، وخفض القلب: في الاشتغال بغير الله، ووقف القلب: في الغفلة عن الله.. ألا ترى أن العبد إذا ذكر الله بالتعظيم خالصاً، ارتفع كل حجاب كان بينه وبين الله تعالى من قبل ذلك، وإذا انقاد القلب لمورد قضاء الله بشرط الرضا عنه، كيف ينفتح بالسرور والروح والراحة، وإذا اشتغل قلبه في أبيات الدنيا كيف تجده إذا ذكر الله بعد ذلك وآياته منخفضاً مظلماً كبيت خراب خلو ليس فيه عمران ولا مؤنس، وإذا غفل عن ذكر الله تعالى، كيف تراه بعد ذلك موقوفاً محجوباً قد قسى وأظلم منذ فارق نور التعظيم .."
فعلامة الرفع ثلاثة أشياء: وجود الموافقة وفقد المخالفة ودوام الشوق، وعلامة الفتح ثلاثة أشياء التوكيل عليه والصدق واليقين"..
وعلامة الخفض ثلاثة أشياء: العجب والرياء والحرص.. وعلامة الوقف ثلاثة أشياء: زوال حلاوة الطاعة، وعدم مرارة المعصية، والتباس علم الحلال والحرام".
ويقول مولاي عبد القادر الكيلاني :
"لا يصطفي القلب حتى تصطفي النفس، وتصير مثل كلب أصحاب أهل الكهف رابضة على الباب وتنادي: " يَٰأَيَّتُهَا ٱلنَّفسُ ٱلمُطمَئِنَّةُ ٱرجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَة مَّرضِيَّة" حينئذ يدخل القلب الحضرة، ويصير كعبة لنظرات الرب سبحانه وتعالى، ويكشف له عن جلال الملك، وتخرج ألقابه وتسلم إليه وراثته، ويسمع النداء من الرفيع الأعلى: يا عبدي وكل عبدي أنت لي وأنا لك، فإذا طالت صحبته صار بطانة للملك، وخليفته على رعيته وأمينه على أسراره، وأرسله إلى البحر ليستنقذ الغرقى، وإلى البر ليهدي الضال، فإن مر على ميت أحياه، أو عل عاص ذكره أو بعيد قربه أو على شقي أسعده..
ويقول رضي الله عنه: أول ما يطلع في قلب المؤمن: نجم الحكمة، ثم قمر العلم، ثم شمس المعرفة.. فيصير بنجم الحكمة ينظر إلى الدنيا.. وبضوء قمر العلم ينظر إلى الأخرى.. وبنور شمس المعرفة ينظر إلى المولى...
ويقول سيدي أحمد الرفاعي :
"القلوب ثلاثة: قلب يطير في الدنيا حول الشهوات، وقلب يطير في العقبى حول الكرامات، وقلب يطير في سدرة المنتهى حول الأنس والمناجات..
فقلب معلق بالدنيا، وقلب معلق بالعقبى، وقلب معلق بالمولى.
وقلب حريق، وقلب غريق، وقلب سحيق..
وقلب منتظر للعطاء، وقلب منتظر للرضاء، وقلب منتظر للقاء..
وقلب مشروح، وقلب مجروح، وقلب مطروح..
وقلب منيب: وهو قلب آدم عليه السلام، وسليم: وهو قلب إبراهيم عليه السلام، ومنير: وهو قلب سيدنا محمد ﷺ ...
ويقول الشيخ الجنيد البغدادي :
"للقلوب أجنحة تطير بها إلى مرادها على قدر صحتها، فكما أن كل طير يطير نحو مقصوده ومطلوبه، على قدر جناحه، وقوة ريشه ، وصحة بدنه، فلا يستريح من طيرانه إلى أن يبلغ غاية مراده ، فإذا بلغ إليه وقف عنده ونزل عليه ولا يجاوز عنه ، كذلك كل إنسان يطير بأجنحة الهمة نحو مقصوده ومطلوبه: على قدر همته وقوة يقينه وصحة إرادته وكمال مرونة، ولا يستريح من طيرانه حتى يبلغ إلى غاية مراده، فإذا بلغ إليه وقف عنده ونزل عليه فلا يجاوز عنه"
وفي ذلك قال الحلاج (وليس بدعيا ولا مشركا ولكن سره عظيم ولا نزكي على الله أحدا) :
قُلوبُ العاشِقينَ لَها عُيونٌ تَرى ما لا يَراهُ الناظِرونا
وَأَلسِنَةٌ بِأَسرارٍ تُناجــــــــــــــــــــــي تَغيبُ عَنِ الكِرامِ الكاتِبينا
وَأَجنِحَةٌ تَطيرُ بغَيرِ ريشٍ إِلى مَلَكوتِ رِبِّ العالِمينا
وَتَرتَعُ في رِياضِ القُدسِ طَوراً وَتَشرَبُ مِن بِحارِ العارِفينا
فَأَورَثَنا الشَرابُ عُلومَ غَيبٍ تَشِفُّ عَلى عُلومِ الأَقدَمينا
شَواهِدُها عَلَيها ناطِقـــــــاتٌ تُبَطِّلُ كُلَّ دَعوى المُدَّعينا
عِبادٌ أَخلَصوا في السِرِّ حَتّى دَنَوا مِنهُ وَصاروا واصِلينا
ويقول صاحب الحكم ابن عطاء :
القلب شجرة تسقى بماء الطاعة، وثمراتها مواجيدها.. فالعين ثمرتها الاعتبار، والأذن ثمرتها الاستماع للقرآن، واللسان ثمرته الذكر، واليدين والرجلان ثمرتهما السعي في الخيرات.. فإذا جف القلب سقطت ثمراته، فإن أجدب فأكْثِر من الأذكار...
وكانت رابعة العدوية تقول :
"اجتهدوا لتجعلوا القلب يقظاً، لأن القلب إذا استيقظ لم تبق له حاجة إلى الرفيق..."
ما ذكرته بمثابة ذرة في صحراء معارف أمهات كتب القوم، والأسف كله على هذه الجواهر التي لم تعن إلا بدفوف النشادين ومقامات المغنين، ولم يكن لها في مختبرات الباحثين نصيب ولا في الأبحاث الجامعية مؤطر ولا مقرر ولا كاتب ولا أديب.. فأقول كما قال أبو نواس: لقد ضاع شعري على بابكم كما ضاع العقد على صدر خالصة.. فلعل العين تتحول همزة..
فلا يكن نصيبنا من هذه المعلومات قراءة وتصفيق، فما تحركت همم الصالحين حول هذه المضغة (القلب) إلا لأهميتها، ولم تكن أهميتهم حولها إلا بما ذكره العليم الحكيم فيها، فلنشد الرحال ولنخلع النعال، فإن في الأمر ما يستحق ذلك ورسول الحق ﷺ يقول: " أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ" فأمر الصلاح والفساد متعلق بكل صلاح وكل فساد (وللتوضيح أكثر فيما يهم أهل الطب وأهل الاجتماع والسياسة... أن الأمر القلب إذا فسد أفسد معه الرأي والقرار والصحة والعافية...) وقي بعد ذلك ما شئت، وإن صح معه باقي الجسد (في كل شيء وأي شيء)..
0 Commentaire(s)