أعمال أخرى للعقل :
وللعقل أعمال أخرى لها إمدادات خارج دائرة التسجيل العقلي أو الترسيخ الفكري أو القياس الحواسي، ولكن البث فيها يحتاج إلى حقائق تفوق مقدرات العقل وذلك كالتفقه قال ربنا: "لَهُم قُلُوب لَّا يَفقَهُونَ بِهَا" أو التعقل الراسخ (وهناك فرق بين التعقل الذي سلف ذكره وهو قراءة ما سبق ترسيبه في العقل والتعقل الترسيخي الذي لا حياد بعده) قال ربنا: "أَفَلَم يَسِيرُواْ فِي ٱلأَرضِ فَتَكُونَ لَهُم قُلُوب يَعقِلُونَ بِهَا"... وهذا ما سنبينه في باب القلب بعون الله تعالى..
التذكر من أعمال العقل :
يقال تذكر الشيء في اللغة إذا ذكره بعد نسيانه أو الغفلة عنه وانشغال العقل بما سواه، وفي علم النفس يقال عنه تشخيص في حالات مرضية للعقل هو استرجاع معاني ذهنية ماضية... ولا في عالم الفلسفة كما يذكر ذلك أفلاطون ويتبعه كثير من المتقدمين ويسرف بعض المتأخرين كثير من المداد على ذلك فيما لا فائدة من ذكره..
أما الذي نود شد الانتباه إليه في هذه الخاصية العقلية العجيبة هي مدى علاقتها بمقومات العقل الباطنة ومثبتات مختلف مناطقه مع المؤثرات الخارجية من جهة وتأثيراتها على الأعضاء الباطنة أو الظاهرة التي لها علاقة بذلك (وقد تظهر في كلامي ديبجة يظن القارئ أني اتعمدها، والواقع أن هذا الذي وجدت كتعبير أوضح به واقع الحال) وهذا مثال لتوضيح المقال:
أ - العقل له خواص في طي مهامه غاية في الأهمية هو: التنكر لما لا يهمه حتى يتم له الإقبال على ما يهتم له أكثر.. مثال ذلك: أنك لو كنت في مكان مكتظة وكنت تكلم أحد كلاما مهما، فإن عقلك يركز على من تكلم ويتنكر طبيعيا إلى ما حوله من الضوضاء وكأنها غير موجودة (وهذا يظهر جليا لو أنك سجلت ما حولك من الكلام وأنت تتكلم وتسمع فإنك ترى الفرق على قدرات تنكر العقل لما لا يهمه)..
ب- هذا التنكر الطبيعي يتنكر لموجود ويتجاهل ثابت حولك لإقبالك على موجود رشحته من هذه الموجودات... والعقل أعانك في اختيارك بتركيزه على ما تريد وتجاهل ما لا تريد، وهذا يثبت أن العقل تابع للإرادة ولا يعتمد عليه في كل تحليل!! وهذا يحل مشكلة الماديين الذي يعتمدون كل اعتماداتهم على ما يقبله العقل.. وفقط العقل..
ج- هذا التوجه الذي يفرض على العقل فيندمج فيه بالتحليل فإنه يندمج معه كل ما هو تابع له من مكوناته الباطنة أو ما هو تابع له من الأعضاء الظاهرة.. ولذلك جعل الله مضادا طبيعيا يسمى "التذكر" وهو الذي يحرر الجسد من إقدام العقل بالتنكر لكل ما هو غير موجه له، وذلك إرجاعه إلى جوهر مهامه وطبيعة وظيفته..
هذا وجه النسيان المنسوب للإنسان، وهو هذا الإقبال والإدبار العقلي أو التنكر والتذكر، وهما متلازمان وطبيعتهما أصلية في العقل إلا أن إدارة ذلك تكون بيد العاقل الذي يعرف كيف يتذكر حتى لا يترك حبل العقل على الغارب في التنكر..
د- كل ما يقبل عليه العقل ويندمج فيه بالتحليل الكلي فإنه يتأثر بطبيعة ذلك الشيء أو الأمر، وتتأثر معه مكونات التحليل في العقل (وهي المناطق المخصصة لذلك التحليل أو التقييم) ثم ما يرتبط معهم من الجسم، والعلة في ذلك: أن العقل ومكوناته يصبحون عبدا لذلك الشيء ومع إنكار غيره يحرمه.. والعقل مهمته التقييم والتحليل وليس التبعية والتعطيل..
هذه مهمة عقلية غاية في الأهمية.. على العقل أن يتحرر منها لتتحرر إمكانياته وقدراته على الإحاطة بالمعلومة وتكمل عنده المعلومة فتكتمل المعارف عند الإنسان وينتفع من كل الموجودات، ويعرف كيف يميز الخبيث من الطيب والوضيع من الرفيع، فيزيد بكل نظرة فكرة، وبكل فكرة رفعة، وبكل درجة معرفة.. وبكل ذلك استقرار وحكمة وتوازن... فإذا وجدنا في وقت من الأوقات تحيزا لفكر معين أو انتماء لفكر معين فإنما هو في الواقع إقصاء لكل الأفكار الأخرى، كأن يقال هذا فكر ليبيرالي، أو اشتراكي، أو حضاري أو فكر متعصب أو شاذ أو منفتح... وقد أصبحت هذه الأفكار تدرس في الجامعات وتعتمد في المجتمعات حتى أصبح الفكر الإسلامي فكرا منها يحلل ويناقش كما أصبحت الأفكار المنحلة يدافعُ عليها من أبواب الحريات وتُسيج بالقوانين والمعاهدات... وأصبحت بنات الأفكار سيدة على العقول، وانكسفت أنوار العقل وأوشكت على الأفول.. أفلا تعقلون؟؟
فكيف يربى العقل وينشل من غفلة السهو والنكران إلى صحوة التذكر والعرفان؟؟؟
الذكر باب عظيم للعقل :
الذكر: المقصود به ذكر الله تعالى (كلمة واحدة) ولا نسمع لمن يلقلق الكلام ويقول أننا نناقش مادة علمية ولا دخل للدين فيها، نقول له أن مادتنا علمية بكل المقاييس، والمقصود بذكر الله هو الرجوع إليه سبحانه ليحصل التحرر من كل ما هو دونه، فيرجع العقل إلى طبيعته التي خلق لها ولا يبقى رهينة ما أقحم فيه فتُستغل تخصصاته وتسلب إمكاناته..
بعبارة أدق وأوضح :
العقل له وجهة ما يوجه إليها، وهي طبيعية فيه ولا حساب عليه فيها لأن تلك خلقته، وهو رئيس هذه "الأوركسترا" التي هي حوله، وحيث ما توجه تتبعه زبانيته يوجهها في التعمق في البحث والغوص لما وُجه له.. المشكل: هو أنه يتطبع بذلك الشيء الذي وُجه له إن طال أمده معه، ويندمج معه بالتحليل.. فبدل أن يبقى أداة مراقبة وتحليل لصاحب العقل يصبح أداة لتحليل الشيء، فتنجر همة الشخص وتطبع بطبيعة الشيء، ويصبح الشخص تابعا للشيء بعد أن كان طالبا لمعرفته.. وهكذا يصبح من كان طالب المعرفة من الشيء تابعا للشيء.. فيطبع العقل بطبيعة الشيء ثم يطبع معه صاحب العقل بكليته (فافهم واختبر!)
طبيعة الذكر معناها: هو أن كل ما انساق العقل وغاص في جزئيات الشيء وجب ترسيم حدود له في التقييم لا يتخطاها.. ولكي يتحصل ذلك أوجدت له طبيعة الخلق في الفطرة التوقف عن التحليل في الشيء بمجرد معرفة طبعه وأصله وضرره ونفعه... والجنوح إلى معرفة طبيعة أصل الشيء وما خلق له وكيف يكون التصرف معه.. "ذلك ذكر الله فيه"
أما بالنسبة للمؤمنين، فذكر الله، أمر أوصى به الله لضرورته، وما من شيء أمر ربنا بالإكثار منه إلا الذكر قال تعالى: "ٰيأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱذكُرُواْ ٱللَّهَ ذِكرا كَثِيرا وَسَبِّحُوهُ بُكرَة وَأَصِيلًا هُوَ ٱلَّذِي يُصَلِّي عَلَيكُم وَمَلَٰئِكَتُهُۥ لِيُخرِجَكُم مِّنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ وَكَانَ بِٱلمُؤمِنِينَ رَحِيما" ولنأخذ فسحة في رحاب هذه الآية العلمية الرحمانية، وفيها جوهر بحثنا وهو عين موضوعنا..
"الذكر الكثير" كل يفسره حسب ما فهمه، والكل يحترم، ولكن الذي أحكيه لكم هو رؤيا بالعين وخبر بالحال، ونضعه للإختبار لكل من يريد أن يجربه وهو في متناول الجميع ميسر لا عسر فيه وللخبراء تمكن في علم العقل لا مراء فيه وهو كما يلي:
كلما انكب جوهر العقل على شيء يحلله تابعا لنظر أو سمع... فإن له وقت محدد ينتهي باكتمال معلومات التقييم للشيء.. فإن ألجم العقل بذكر الله المطابق لذلك الشيء (كأن يقول عندما يرى شيئا عظيما: الله أكبر.. أو شيئا جميلا يقول: الحمد لله.. أو يرى شيئا سيئا يقول: أعوذ بالله.. أو غريبا يقول: سبحان الله...) وهذه تسمى الباقيات الصالحات..
عندما يلجم الشخص العقل بذكر الله فهو يرجعه إلى حقيقة فطرته ويربطه بممدات المعرفة لذلك الشيء، فيزداد العقل حصانة ومنعة وقوة... وأما إن انجر العقل في مكونات الشيء وتفاعل مع حيثياته فإنه يتطبع بطبع ذلك الشيء خوفا أو هلعا أو طمعا أو شوقا أو قلقا... فينقطع عن العقل الإمداد الأصلي ويمد بطبيعة ذلك الشيء... هكذا والذي لا إله غيره ولا رب سواه.. أن الأمر هكذا وهو يدور على هذا النحو.. فكيف يجوز إخفاء معلومة بهذا الحجم والكل في أشد الحاجة إليها، والمطلوب من المتخصصين في الإعجاز العلمي للقرآن والسنة أن يبحثوا هذه المرة في الإعجاز القرآني لعلوم العقل وقدراته وهذه الآية السابق ذكرها بتأويل علمي، قال ربنا: "ٰيأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱذكُرُواْ ٱللَّهَ ذِكرا كَثِيرا" المقصود ب" اذكروا الله" يعني ذكّروا العقل بالله عند كل تنكر له عند سريانه مع كل شيء وجّه له بالتحليل، وحيث أن العقل يوجه كثيرا وجب على العاقل أن يذكره كثيرا (وهذا إن شئت قلت عمليات الاستعجال لتحصين العقل) أما عمليات التقويات العامة أو اللياقة العقلية ففي قوله تعالى: "وَسَبِّحُوهُ بُكرَة وَأَصِيلًا" ففي كل بداية لليوم أو ختامه فالتسبيح لله وتعظيمه كفيل أن يبقي العقل مؤهل لكل تعقل سليم وبعيد عن كل تفكير سقيم، وتعلل الآية ذلك وتبين سره: "هُوَ ٱلَّذِي يُصَلِّي عَلَيكُم وَمَلَٰئِكَتُهُۥ" وقد قرن الله بين صلاته سبحانه وصلاة ملائكته (وهو الغني سبحانه ولا يحتاج إلى معين...) فصلاته سبحانه بركته فيما خلق وتنويره لما خلق له، وذلك في تسبيحه في البكرة والأصيل، وفيما توجه فيه توحيد العقل لله بذكره عند كل أمر فوحده أو عظمه أو مجده أو سبحه... فتحصل للعقل منعة وحصانة وبركة ويزداد نوره وتتسع بصيرته.. وأما "صلاة الملائكة" فربنا سبحانه جعل لكل خير ملائكة تخدمه كما جعل لكل شر شياطين تقرنه، فإن كان العمل دنيويا حلالا وذكر الله عليه وكل الله عليه ملائكة تنور له طريقه فينتفع فيه في الدنيا ويكون مطية له للآخرة وذلك معنى قوله تعالى: "لِيُخرِجَكُم" لأنه تم دخول العقل الذي سرعان ما يتبعه الكيان "مِّنَ ٱلظُّلُمَٰتِ" المحاطة بكل شيء لم يذكر اسم الله عليه ولم يتوكل على الله فيه "إِلَى ٱلنُّورِ" إلى نور ذلك الشيء وبره وسره وكل خلق من أجله "وَكَانَ بِٱلمُؤمِنِينَ رَحِيما"...
وهذه القاعدة العامة بالمؤمنين كما يخاطبهم رب العزة، ولذلك كان باب الذكر بابا عظيما، وله مراتب كما لتأثير العقل على الجسد مراتب، أما مراتب تأثير الشيء على العقل فاقتناعه به وتدجين الجسد لقبوله... فمراتب الذكر عند الشيء هو ذكر باللسان وطاعة بالأبدان حتى يحصل الرسوخ في الكيان (فافهم) ولذلك صنف الرسول الكريم الذكر من أفضل الأعمال قال ﷺ: أَلَا أُنَبِّئُكم بِخَيْرِ أعمالِكُم وأَزْكاها عِندَ مَلِيكِكُم وأَرفعِها في دَرَجاتِكُم وخيرٌ لكم من إِنْفاقِ الذَّهَب والوَرِقِ، وخيرٌ لكم من أن تَلْقَوا عَدُوَّكم، فتَضْرِبوا أعناقَهُم ، ويَضْرِبوا أعْناقكُم ؟ ! ، قالوا بَلَى قال: ذِكْرُ اللهِ..
لعلي أطلت في هذا الباب العلمي للعقل الذي تم إغفاله في الأبحاث وله كل هذه الأهمية التي لم يذكر منها إلا القليل، فيجب الانكباب عليه من أهل الاختصاص.. وفيه إحياء لنور العقل ثم للقلب وحياة بكل المقاييس قال فيه القائل:
والذكر أعظم باب أنت داخله فاجعل الأنفاس له حراسا
ويقول الشبلي في مقامات الذكر :
ذكرتك لا أنّي نسِيتُكَ لمحــــــــــــــــــــــــــــةً وأيسَرُ مافي الذكرِ ذكرُ لساني
وكِدتُ بلا وَجدٍ أموتُ من الهوى وهام عليَّ القلبُ بالخفقانِ
فلما أراني الوجدُ أنَّكَ حاضري شَهِدتُكَ موجوداً بكل مكانِ
فخاطبتُ موجوداً بغير تكلـــــــم ولاحظت معلوما بغيرِ عيانِ
وأما بالنسبة لغير المؤمنين فالذكر بعد الغفلة لحصانة العقل هو الرجوع إلى جادة ما خلق الشيء له والتعامل معه بما يصلح وما ينفع ولا ينساق مع الشيء فيصبح جزءا من الشيء بدل أن كان محللا أو مراقبا للشيء (وما وصلنا إليه من الانجراف في علل المادية على اختلاف أنواعها هي بنات هذه التوجهات العقلية غير المحسوبة العواقب)
وهذا إعراب فعل الذكر المطلوب التحقق به في قوله تعالى: يأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱذكُرُواْ ٱللَّهَ ذِكرا كَثِيرا"
العزم والقرار من وظائف العقل المركبة :
كثير يبني قراره وعزمه على وظائف العقل العادية، وهو باب جليل يغيب فيه التوفيق باستعمال العقل المجرد، فللعزم أنوار يمد بها العقل لكي يكون القرار صائبا والحكم العقلي منصفا، وهي إمدادات سلوكية تلبس القرار أو الحكم العقلي ليانة واعتدالا، مفتاحه الصبر ومنهجه التوفيق في القرار الصائب قال ربنا: "فَٱصبِر كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ ٱلعَزمِ مِنَ ٱلرُّسُلِ" وأولوا العزم من الرسل هم أربعة: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام، ولا يعتبر سيد الأولين والآخرين من أولي العزم لأنه ﷺ فوق التصنيف، وهي إن شئت قلت أربع مدارس للعزم (يجب الانكباب عليها لإثراء خزانة المعارف العقلية بما أنزل الله لها في محكم كتابه وعلى سنن رسله) أما فيما يتعلق بسيد الأولين والآخرين فله منهج في العزم فوق التصنيف قال ربنا:" فَبِمَا رَحمَة مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُم وَلَو كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ ٱلقَلبِ لَٱنفَضُّواْ مِن حَولِكَ، فَٱعفُ عَنهُم وَٱستَغفِر لَهُم وَشَاوِرهُم فِي ٱلأَمرِ، فَإِذَا عَزَمتَ فَتَوَكَّل عَلَى ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلمُتَوَكِّلِينَ"..
وهذه آية عظيمة تبين سلوك العزم المحمدي، وكيف ينشل من الفضاضة الموجبة لانفضاض من حولك، وما نوع السلوك الذي يجب أن يصاحب القوم لاستنهاضهم من عقبات ثلاث:
أولها: "أعف عنهم".. لأن تقاعسهم يعيقهم، فعفوك عنهم يسقط يسقط عنهم تبعات حقك..
ثانيا: "واستغفر لهم" ولم يقل لهم الله ليستغفروا، والمقصود استغفر لهم حتى يفتح لهم باب الاستغفار من الذنوب والستر من العيوب فتحرر عقولهم من كل ما يعيقها (وهذه كلها معوقات يجب أن تعتبر)
ثالثا: "وشاورهم في الأمر" والمشاورة هنا حتى يتم التأكد أن عقولهم صحت وإمكانياتهم العقلية في الرأي استوت.. وهذه شروط المشورة، فإذا قال ربنا: "وَأَمرُهُم شُورَىٰ بَينَهُم" فهذا هو المنهج المحمدي في المشورة..
ختاما: " وإذا عزمت فتوكل على الله" فالعزم عند رسول الرحمة هذه شروطه وهذه مدرسته.. فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا...
وللعزم انوار كما هي واضحة في حروفه من قوله تعالى فَإِذَا عَزَمتَ وهي كما يلي:
الاستنباط من أعمال العقل فوق العادية :
الاستنباط هو استخراج الأنوار من الآيات البينات والأسرار من معانيها، وللاستنباط أهل وخصوص ولهم آليات سلوكية بها يركبون لجج المعاني الربانية قال ربنا: " أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ ٱلقُرءَانَ وَلَو كَانَ مِن عِندِ غَيرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱختِلَٰفا كَثِيرا وَإِذَا جَاءَهُم أَمر مِّنَ ٱلأَمنِ أَوِ ٱلخَوفِ أَذَاعُواْ بِهِۦ وَلَو رَدُّوهُ إِلَى ٱلرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُوْلِي ٱلأَمرِ مِنهُم لَعَلِمَهُ ٱلَّذِينَ يَستَنبِطُونَهُۥ مِنهُم، وَلَولَا فَضلُ ٱللَّهِ عَلَيكُم وَرَحمَتُهُۥ لَٱتَّبَعتُمُ ٱلشَّيطَٰنَ إِلَّا قَلِيلا".. فتدبر القرآن مطلوب، ولكن استنباطه لحصول العلم به في أمور الخوف أو الأمن مردود إلى الرسول الكريم ومن ينوب عنه من أولي العلم (وليس لغيرهم فيه نصيب) وهذه آليات الاستنباط السلوكية في الصورة:
التأويل من أعمال العقل الملهمة :
الاستنباط يكون في استخراج المعاني قصد إصدار الأحكام، اما التأويل هو الخروج من الاستنباط بتأويل يعود إلى أصل الشيء ومعناه أو ما يراد منه، ومنه كان تأويل الرؤى والأحلام، ذلك أن الروح ترى أمورا على حقيقتها لكنها عند نقل المعلومة إلى الجسد يفسرها العقل باللغة التي اعتادها ولكن تكون فيها إشارات تدل على أصلها، فاستنباط الأصول والدلالات يسمى تأويلا (وهذا ما سنراه بتفصيل في باب تأويل الرؤى لاحقا)..
أما ما يهمنا فتأويل آيات الله العظام فهو من اعظم الأبواب قال ربنا: "هُوَ ٱلَّذِي أَنزَلَ عَلَيكَ ٱلكِتَٰبَ مِنهُ ءَايَٰت مُّحكَمَٰتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلكِتَٰبِ وَأُخَرُ مُتَشَٰبِهَٰت، فَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم زَيغ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَٰبَهَ مِنهُ ٱبتِغَاءَ ٱلفِتنَةِ وَٱبتِغَاءَ تَأوِيلِهِۦۖ وَمَا يَعلَمُ تَأوِيلَهُۥٓ إِلَّا ٱللَّهُ وَٱلرَّٰسِخُونَ فِي ٱلعِلمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِۦ كُلّ مِّن عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُواْ ٱلأَلبَٰبِ" فكل باب للتأويل فتح على الهوى إنما هو فتح باب للفتنة (وما وصل إليه أمر الأمة من توسيع الهوة بين الفرق المسلمة إنما هو من سوء التأويل) وحقيقة التأويل مجملة في قوله تعالى: وَمَا يَعلَمُ تَأوِيلَهُۥٓ إِلَّا ٱللَّهُ.. فليسلم المؤمن الأمر له سبحانه وليتمسك بأهداب أولي الألباب، وأحسن التأويل هو أن ترد الأمر فيه لله وللرسول قال ربنا: " يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلأَمرِ مِنكُم فَإِن تَنَٰزَعتُم فِي شَيء فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنتُم تُؤمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱليَومِ ٱلأخِرِ ذَٰلِكَ خَير وَأَحسَنُ تَأوِيلًا"
وهذه صورة تبين انوار حروف هذا المعنى العقلي العجيب في كلمة "تأويله" من قوله تعالى: " وَمَا يَعلَمُ تَأوِيلَهُۥٓ إِلَّا ٱللَّهُ " فتأمله وبالله التوفيق:
0 Commentaire(s)