أباح لك أن تنظر إلى المكونات، و ما أذن لك أن تقف مع ذوات المكونات، قل انظروا ماذا في السماوات و الأرض، و لم يقل: انظروا السماوات و الأرض، لئلا يدلك على وجود الأجرام،
قلـت: إنما أبرز الله هذه المكونات، و أظهر هذه العوالم ليعرف بها و يظهر نوره فيها، قال تعالى:( وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ، مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) الدخان/39، و قال تعالى:( أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ) المؤمنون115،
قال في لطائف المنن: فما نصبت الكائنات لتراها و لكن لترى فيها مولاها، فمراد الحق منك أن تراها بعين من لا يراها، تراها من حيث ظهوره فيها، و لا تراها من حيث كونيتها، و لنا في هذا المعنى:
مـا أثبــت لــك العـوالـم إلا ***** لتراهــا بعيــن مـن لا يــراهــا
فـارق عنهـا رقـي من ليـس يرضى ***** حــالــة دون أن يــرى مــولاهـا
فأباح لك أيها الإنسان أن تنظر ماذا في السماوات و الأرض من النور اللطيف الذي قامت به الأشياء، و ما أباح لك أن تقف مع ذوات المكونات، فتقف مع القشر و تحجب عن اللب، و قد تقدم قوله: الأكوان ظاهرة غرة و باطنها عبرة، فمن وقف مع ظاهرها كان محجوبا، و من نفذ إلى باطنها كان عارفا محبوبا، و لأجل هذا السر قال تعالى:( قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) أي ما فيها من عظمته و معاني أسرار ذاته، و كمال قدرته و إرادته و سائر صفاته..
فقد فتح لك باب الإفهام، (جمع فهم)، أي فتح لك باب الفهم لتدخل بها من ظاهر القشر إلى باطن اللب، حتى تعرفه في كل شيء، و تفهم عنه في كل شيء، و لو قال الحق تعالى: قل انظروا السماوات، لدلك على الأجرام و سد لك باب الإفهام، و كيف يدلك على الأجرام و هي أغيار، و الأغيار مانعة من الدخول إلى شهود الأنوار، و مثال ذلك في التقريب لو قال لك قائل: انظر هذه الثلجة لدلك على ظاهر جرمها، و لو قيل لك انظر ما في هذه الثلجة لفتح لك باب الإفهام إلى النظر إلى ما في باطنها من الماء دون الوقوف مع ظاهر جرمها..
و اعلـم: أن الحق سبحانه ندب عباده إلى معرفة ذاته، و درجهم أيضا شيئا فشيئا، فمنهم من قصر و منهم من وصل، فدرجهم أولا إلى توحيد الأفعال، و أنه لا فاعل سواه، فقال تعالى:( وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ) و قوله تعالى:( إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ) و قوله تعالى:( وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) و قوله تعالى:( وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ) و قال تعالى في فعل غير الآدمي:( مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا) و في شأن الطير:( مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ) و قال تعالى:( وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم)، أي في قهر قبضتنا، مقدرة آجلها، مقسومة أرزاقها، معدودة أنفاسها محفوظة أجسامها معلومة أماكنها ظاهرة أشباحها باطنة أنوارها..
و قال في توحيد الصفات: و أنه لا سميع و لا بصير و لا قدير و لا متكلم إلا الله، إنه هو السميع البصير، أي دون غيره، فلا سمع و لا بصر إلا به سبحانه، و قال تعالى:( إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ) و قال تعالى:( وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ) إلى غير ذلك من الآيات..
و قال تعالى في توحيد الذات:( وَهُوَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ) و قوله تعالى: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) على تفسير أهل الإشارة و هم أهل الباطن، و قال تعالى:( فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ) و قوله تعالى:( وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ) و قوله تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ)..
و قال تعالى في محو الواسطة:( فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) و قوله تعالى:( إنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا) أي بالحرث شقا و يحتمل أن تكون منها..
أو من توحيد الأفعال قوله تعالى:( وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى) و قوله تعالى: (وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ)..
و قد يجمع الحق تعالى في آية واحدة توحيد الصفات و يرقى إلى توحيد الذات كقوله تعالى:( سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) ثم رقاه إلى الشهود بقوله:( أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) و قوله تعالى:( أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَاء رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ)، و قوله تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) ثم رقاهم من الغيب إلى الشهادة بقوله:( وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ {الملك/13} أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)..
فتحصل أن الأشياء كلها قائمة بالله، أثبتها ليعرف بها، ثم محاها بوحدانيته كما أشار إليها الشيخ بقوله:
0 Commentaire(s)