أنت حر مما أنت عنه آيس، و عبد لما انت له طامع.

قلــت: إنما كان الإنسان حر مما أيس منه، لأنه لما أيس من ذلك الشيء رفع همته عنه، و علقها بالملك الحق، فلما علق همته بالملك الحق، سخر له الحق تعالى سائر الخلق، فكانت الأشياء كلها عبيدا له و مسخرة لأمره مع الأكوان ما لم تشهد المكون، فإذا شهدت المكون كانت الأكوان معك، فمن كان عبد الله كان حرا مما سواه، و إنما كان الإنسان عبدا لما طمع فيه، لأن الطمع في الشيء يقتضي المحبة و الخضوع و الانقياذ إليه، فيكون عند أمره و نهيه، لأن حبك لشيء يعمي و يصم، و هذه حقيقة العبودية، و في هذا قيل: العبد حــر ما قنع، و الحر عبد ما طمع، و ما أقبح الإنسان الذي يريد سيده منه أن يكون ملكا و هو يريد أن يكون مملوكا، يريد سيده أن يجعله حرا، و هو يريد أن يكون عبدا، خلق له سيده الكون كله له خادما له عند نهيه و أمره، فجعل هو يخدم الكون بنفسه و يتعبد لأقل شيء و أخسه.

يقول المصنف في التنوير في مناجاة الحق تعالى على لسان الهواتف، إنا أجللنا قدرك أيها العبد أن نشغلك بأمر نفسك، فلا تضعن قدرك، يا من رفعناه، و لا تذلن بحوالتك على غيري، يا من أعززناه، و يحك، أنت أجل عندنا من أن تشتغل بغيرنا، لحضرتي خلقتك، و إليها طلبتك، و بجواذب عنايتي لها جذبتك، فإن اشتغلت بنفسك حجبتك، و إن اتبعت هواها طردتك، و إن خرجت عنها قربتك، و إن توددت لي بإعراضك عما سواي أحببتك.

فتحصل أن محبة الأشياء و الطمع فيها هو سبب الذل و الهوان، و التعبد لسائر الأكوان، و أن الإياس من الأشياء و رفع الهمة عنها هو سبب العز و الحرية و التيه على الأقران، و لله در القائل حيث قال:

رأيت القناعة رأس الغنى

فصرت بأذيالها متمســك

فألبسني عزها حلــة

يمر الزمان و لا تنهتــك

فصرت غنيا بلا درهم

أتيه على الناس تيه المــلك

قلـت: و هذا هو الغنى الأكبر و الإكسير عند الأكياس، و يسمى في اصطلاح الصوفية الورع، أعني الورع الخاص، و هو رفع الهمة عن السوي، قال في لطائف المنن: و اعلم رحمك الله أن ورع الخصوص لا يفهمه إلا قليل، فإن من جملة ورعهم تورعهم أن يسكنوا لغيره، أو يميلوا بالحب لغيره، أو تمتد أطماعهم بالطمع في غير فضله و خيره، و من ورعِهِم ورعهم عن الوقوف مع العادات، و الاعتماد على الطاعات، و السكون إلى أنوار التجليات..

و من ورعِهم، و رعهم عن أن تفتنهم الدنيا و توقفهم الآخرة، تورعوا عن الدنيا وفاء، و عن الآخرة صفاء..

قال عثمان بن عاشوراء: خرجت من بغداد أريد الموصل، فبينما أنا أسير، و إذا بالدنيا قد عرضت علي بعزها و جاهها، ورفعتها و مراكبها، و ملابسها و مزيناتها و مشتهياتها، فأعرضت عنها، فعرضت علي الجنة بحورها و قصورها و أنهارها و ثمارها، فلم أشتغل بها، فقيل لي: يا عثمان، لو وقفت مع الأول لحجبناك عن الثانية، و لو وقفت مع الثانية لحجبناك عنا، فها نحن لك، و قسطك في الدارين يأتيك..

قال الشيخ عبد الرحمن المغربي، و كان مقيما بشق الإسكندرية، حجبت سنة من السنين، فلما قضيت الحج، عزمت على الرجوع إلى الأسكندرية، فإذا النداء على أنك العام القابل عندنا، فقلت في نفسي، إذا كنت العام القابل هاهنا، فلا أعود إلى الأسكندرية، فخطر علي الذهاب إلى اليمن، فأتيت عدن، فبينما أنا على ساحلها أمشي، و إذا بالتجار قد فتحوا متاجرهم و أخرجوا بضائعهم، ثم نظرت فإذا رجل قد فرش سجادة على البحر و مشى على الماء، فقلت في نفسي: لم أصلح للدنيا و لا للآخرة، فإذا علي يقال: من لم يصلح للدنيا و لا للآخرة يصلح لنا..

و قال أبو الحسن، الورع نعم الطريق لمن عجل ميراثه و أجل ثوابه، فقد انتهى بهم القول إلى الأخذ من الله و عن الله و القول بالله و العمل لله و بالله على البينة الواضحة الفائقة، فهم في عموم أوقاتهم و سائر أحوالهم لا يدبرون و لا يختارون و لا يريدون و لا يتفكرون و لا ينظرون و لا ينطقون و لا يبطشون و لا يمشون و لا يتحركون إلا بالله و لله من حيث يعلمون، هجم بهم العلم على حقيقة الأمر، فهم مجموعون في عين الجمع، لا يفترقون فيما هو أعلى و لا فيما هو أدنى..

و أما أدنى الأدنــى، فالله يورعهم عنه ثوابا لورعهم مع الحفظ لمنازلات الشرع عليهم، و من لم يكن لعلمه و عمله ميراث فهو محجوب بدنيا، أو مصروف بدعوى، و ميراثه التعزز لخلقه، و الاستكبار على مثاله، و الدلالة على الله بعلمه، فهذا هو الخسران المبين، و العياذ بالله العظيم من ذلك، و الأكياس يتورعون عن هذا الورع و يستعيذون بالله منه، و من لم يزدد بعلمه و عمله افتقارا لربه و احتقارا لنفسه و تواضعا لخلقه فهو هالك، فسبحان من قطع كثيرا من الصالحين بصلاحهم عن مصلحهم، كما قطع كثيرا من المفسدين عن موجدهم، (فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)..

فانظر فهمك الله سبيل أوليائه، و من عليك بمتابعة أحبائه، هذا الورع الذي ذكره هذا الشيخ رضي الله عنه، هل كان فهمك يصل إلى هذا النوع من الورع، ألا ترى قوله: قد انتهى بهم إلى الأخذ من الله و عن الله، و القول بالله و العمل لله و بالله على البينة الواضحة و البصيرة الفائقة، فهذا هو ورع الأبدال و الصديقين، لا ورع المنقطعين، الذي ينشأ عن سوء الظن و غلبة الوهم.

قلــت: هذا الورع الذي ذكره الشيخ هو ورع الخواص، أو خواص الخواص، و هو الذي يقابل الطمع، كما تقدم في قول الحسن البصري: صلاح الدين الورع، و فساد الدين الطمع، لا ورع العوام الذي ترك المتشابه و الحرام، فإنه لا يقابل الطمع كل المقابلة، و حاصله صحة اليقين و كمال التعلق برب العالمين، و وجود السكون إليه، و عكوف الهمم عليه، و طمأنينة القلب به، حتى لا يكون له ركون إلى شيء من السوى، فهذا هو الورع الذي يقابل الطمع المفسد، و به يصلح كل عمل مقرب و حال مسعد..

قال يحيى بن معاذ رضي الله عنه، الورع على وجهين، ورع في الظاهر و هو ألا تتحرك إلا لله، و ورع في الباطن و هو ألا يدخل قلبك إلا الله؛ ذكر أن بعضهم كان حريصا على أن يرى أحدا ممن هذا وصفه، فجعل يجتهد في طلبه، و يحتال على التوصل إليه بأن يأخذ الشيء بعد الشيء من ماله و يقصد به الفقراء و المساكين، و يقول لمن يعطيه: خذ لا لك، فكانوا يأخذون، و لا يسمع من أحد منهم جوابا مطابقا لما أراده إلى أن ظفر يوما ببغيته و حصل على مقصوده و منيته، و ذلك أنه قال لأحدهم: خذ لا لـك، فقال له: آخذه لا منـك..

فإن كان للعبد استشراف إلى الخلق أو سبقية نظر إليهم قبل مجيء الرزق أو بعده، فمقتضى هذا الورع و الواجب في حق الأدب ألا ينيل نفسه شيئا مما يأتيه على هذا الحال عقوبة لنفسه في نظره إلى أبناء جنسه، كقصة أيوب الحمال مع أحمد بن حنبل رضي الله عنهما، و هي معروفة، و كما روي عن الشيخ أبي مدين رضي الله عنه: أنه أتاه حمال بقمح فنازعته نفسه و قالت: يا ترى من أين هذا، فقال: أنا أعرف من أين هو يا عدوة الله، و أمر ببعض أصحابه أن يدفعه لبعض الفقراء عقوبة لها لكونها رأت الحلق قبل رؤية الحق تعالى.

و قد قيل أن أحل الحلال ما لم يخطر على بال، و لا سألت فيه أحدا من النساء و الرجال.

قال الشيخ عبد العزيز المهدوي رضي الله عنه: الورع ألا تتحرك و لا تسكن إلا وترى الله في الحركات و السكون، فإذا رأى الله ذهبت الحركة و السكون و بقي مع الله، فالحركة ظرف لما فيها كما قال: ما رأيت شيئا إلا رأيت الله فيه، فإذا رأيت الله ذهبت، و قال أيضا: أجمع العلماء على أن الحلال المطلق ما أخذ من يد الله بسقوط الوسائط، و هذا مقام التوكل، و لهذا قال بعضهم: الحلال هو الذي لا ينسى الله فيه، على نقل ابن عباد رضي الله عنه.

 

الإقبال على الله بملاطفة الإيمان خير من الانقياد بسلاسل الامتحان


0 Commentaire(s)

Poster un commentaire