مطلب العارفين من الله تعالى الصدق في العبودية، و القيام بحقوق الربوبية.

قلــت: المطلب مصدر بمعنى المفعول، أو اسم مكان أي مطلوب العارفين و مقصودهم أي محل قصدهم و محل نظرهم، إنما هو تحقق الصدق في العبودية بحيث لا تبقى فيهم بقية، إذ الكاتب عبد ما بقي عليه درهم، فما دام العبد مسجونا بمحيطاته محصورا في هيكل ذاته لا تنفك عنه الحظوظ إما دنيوية أو أخروية، فلا تتحقق عبوديته لله و فيه عبودية لحظوظه و هواه، فلا يكون صادقا لعبوديته و هو مملوك لحظ نفسه، فإذا قال أنا عبد الله، نازعته حظوظه و هواه، فلا تتحقق عبوديته لله حتى يتحرر من رق الأكوان، و يتحقق من مقام الأحرار من أهل العرفان، فحينئذ يكون سالما لله حرا مما سواه، قال تعالى: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَّجُلًا فِيهِ شُرَكَاء مُتَشَاكِسُونَ) أي متخاصمون (وَرَجُلًا سَلَمًا لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا) الزمر/29، أي لا يستويان أبدا، إذ العبد الخالص لسيد واحد يكون أحظى بمحبة مولاه، و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم:"تعس عبد الدينار و الدرهم و الخميصة، إذا أعطي رضي و إذا لم يعط سخط، تعس و انتكس، و إذا شيك فلا انتقش" تعس أي خاب و خسر، و إذا شيك فلا انتقش، أي إذا أصابته شوكة، فالله لا يخرجها منه بالنقش عليها، و هو دعاء على من حظه هواه بالتنكيس و عدم الخروج مما يقع فيه..

و قال أبو سليمان الداراني رضي الله عنه: شتان بين من همه الحور و القصور، و بين من همه الحضور و رفع الستور/..

و لأجل هذا كان مطلب العارفين، إنما هو التحقق بالعبودية لمولاهم بالتحرر من رق هواهم، و القيام بوظائف الربوبية بالأدب و التعظيم و الإجلال لمولاهم، و هما متلازمان، فمهما تحقق الصدق في العبودية إلا حصل القيام بوظائف الربوبية، فإن النفس إذا ماتت بتكرك حظوظها حييت الروح، و إذا حييت الروح عرفت، و إذا عرفت أذعنت و خضعت لهيبة الجلال، و هذا هو القيام بحقوق الربوبية، و هو مراد العارفين و مقصود السائرين، و محط نظر القاصدين و الطالبين، قيـل لبعضهم: ما مــراد العارف، قــال: مراد معروفــه/..

أي لا يريد إلا ما أراد سيده، و لا يتمنى إلا ما يقضيه عليه مولاه، و قيــل لبعضهم: ما تشتهـي؟ قال: ما يقضـي الله، فهكذا يتحقق للعارف فناؤه، و بتحقيق فنائه يتحقق بقاؤه، و أنشــدوا:

لو قيل لي ما تمنى، و العبد يعطى مناه

لقلت منية قلبي في بقـــاه

أي بقاؤه مع مولاه، و الله تعالى أعلــم/..

 

السر في البسط و القبض

إذا طلب العبد من مولاه ما هو طالبه منه، من استقامة ظاهره بالنهوض إلى كمال الطاعات، و الحزن على ما سلف من الغفلات، و استقامة باطنه بمعرفة معبوده و الفناء في شهوده، فيكون ظاهره قائما بوظائف العبودية، و باطنه متحققا بحقوق الربوبية، ثم إذا أحس بإجابة المطلب و حصول المنى و المرغوب، فرح قلبه، و انبسطت روحه، حيث استنشقت نسيم الإقبال و روح الوصال، فربما يقبضها البسط عن شهود مولاها، فيخرجها منه إلى القبض، ثم يرحلها عنها إليه، كما أشار الشيخ إلى ذلك بقوله:

0 Commentaire(s)

Poster un commentaire